كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 6)
وَوَصَلَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ، فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّقْدِيرَ تَجِدْهُ صَحِيحًا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ. وَقَوْلُهُمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «1» يَعْنِي: وَلَوْ عَجَّلْنَا لَهُمُ الشَّرَّ الَّذِي دَعَوْا بِهِ كَمَا نُعَجِّلُ لَهُمُ الْخَيْرَ لَأُمِيتُوا وَأُهْلِكُوا. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ اتَّصَلَ بِهِ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا، وَمَا مَعْنَاهُ؟ (قُلْتُ) : قَوْلُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى نَفْيِ التَّعْجِيلِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا نُعَجِّلُ لَهُمُ الشَّرَّ وَلَا نَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ، فَنَذَرُهُمْ فِي طغيانهم، أو فنمهلهم، ونفيض عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ مَعَ طُغْيَانِهِمْ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذكر عَجَبَ النَّاسِ مِنْ إِيحَاءِ اللَّهِ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ الإنذار والتبشير، وكانوا يستهزؤون بِذَلِكَ وَلَا يَعْتَقِدُونَ حُلُولَ مَا أَنْذَرُوهُ بِهِمْ فَقَالُوا: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً» «2» وَقَالَ إِخْبَارًا عَنْهُمْ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «3» وَقَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا «4» ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ إِيجَادَهُ الْعَالَمَ، ثُمَّ إِلَى تَقْسِيمِ النَّاسِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَذَكَرَ مَنَازِلَ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُنْذَرَ بِهِ الَّذِي طَلَبُوا وُقُوعَهُ عَجَلًا لَوْ وَقَعَ لَهَلَكُوا، فَلَمْ يَكُنْ فِي إِهْلَاكِهِمْ رَجَاءُ إِيمَانِ بَعْضِهِمْ، وَإِخْرَاجُ مُؤْمِنٍ مِنْ صُلْبِهِمْ بَلِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ لَهُمْ مَا طَلَبُوهُ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ اسْتِعْجَالَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُشَبَّهٌ بِهِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ تَعْجِيلَهُ لَهُمُ الْخَيْرَ، فَوَضَعَ اسْتِعْجَالَهُ لَهُمْ بِالْخَيْرِ مَوْضِعَ تَعْجِيلِهِ لَهُمُ الْخَيْرَ إِشْعَارًا بِسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ لَهُمْ وَإِسْعَافِهِ بِطِلْبَتِهِمْ، كَأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ تَعْجِيلٌ لَهُمْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: التَّقْدِيرُ مِثْلُ اسْتِعْجَالِهِمْ، وَكَذَا قَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَمَدْلُولُ عَجَّلَ غَيْرُ مَدْلُولِ اسْتَعْجَلَ، لِأَنَّ عَجَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ، وَاسْتَعْجَلَ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ التَّعْجِيلِ، وَذَاكَ وَاقِعٌ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا مُضَافٌ إِلَيْهِمْ فَلَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ تَعْجِيلًا مِثْلَ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالْخَيْرِ، فَشَبَّهَ التَّعْجِيلَ بِالِاسْتِعْجَالِ، لِأَنَّ طَلَبَهُمْ لِلْخَيْرِ وَوُقُوعُ تَعْجِيلِهِ مُقَدَّمٌ عِنْدَهُمْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ إِذَا اسْتَعْجَلُوا بِهِ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالشَّرِّ وَوُقُوعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، كَمَا كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالْخَيْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ:
لَقَضَى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَجَلَهُمْ بِالنَّصْبِ، وَالْأَعْمَشُ لَقَضَيْنَا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ،
__________
(1) سورة الأنفال: 8/ 32.
(2) سورة الأنفال: 8/ 32.
(3) سورة الحج: 22/ 47.
(4) سورة الأعراف: 7/ 70.
الصفحة 19
619