كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 6)

: هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّبْرِئَةِ مِمَّا طَلَبُوا مِنْهُ أَيْ: إِنَّ تِلَاوَتَهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْدَاثِهِ أَمْرًا عَجِيبًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يَسْتَمِعْ وَلَمْ يُشَاهِدِ الْعُلَمَاءَ سَاعَةً مِنْ عُمُرِهِ، وَلَا نَشَأَ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا عُلَمَاءُ فَيَقْرَأُ عَلَيْكُمْ كِتَابًا فصيحا يبهر كلام كُلَّ فَصِيحٍ، وَيَعْلُو عَلَى كُلِّ مَنْثُورٍ وَمَنْظُومٍ، مَشْحُونًا بِعُلُومٍ مِنْ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَأَخْبَارِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، نَاطِقًا بِالْغُيُوبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَلَغَ بَيْنَ ظَهْرَانِيكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً تَطَّلِعُونَ عَلَى أَحْوَالِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَسْرَارِهِ، وَمَا سَمِعْتُمْ مِنْهُ حَرْفًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عَرَّفَهُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أقرب الناس إليه وألصقتم بِهِ.
وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ أَيْ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا أَتْلُوَهُ. وَجَاءَ جَوَابُ لَوْ عَلَى الْفَصِيحِ مِنْ عَدَمِ إِتْيَانِ اللام، لكونه منفيا بما، وَيُقَالُ: دَرَيْتُ بِهِ، وَأَدْرَيْتُ زَيْدًا بِهِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا أُعْلِمُكُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِي. وَقَرَأَ قُنْبُلُ وَالْبَزِّيُّ مِنْ طَرِيقِ النَّقَّاشِ عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْهُ: وَلَأَدْرَاكُمْ بِلَامٍ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مُثْبَتٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَنْفِيٍّ، وَالْمَعْنَى: وَلَأَعْلَمَكُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِي وَعَلَى لِسَانِ غَيْرِي، وَلَكِنَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَخَصَّنِي بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ وَرَآنِي لَهَا أَهْلًا دُونَ النَّاسِ.
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فلا مُؤَكِّدَةٌ، وَمُوَضِّحَةً أَنَّ الْفِعْلَ مَنْفِيٌّ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْفِيٍّ، وَلَيْسَتْ لَا هِيَ الَّتِي نُفِيَ الْفِعْلُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَفْيُ الفعل بِلَا إِذَا وَقَعَ جَوَابًا، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ. وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَا لَا كَانَ كَذَا، إِنَّمَا يَكُونُ مَا كَانَ كَذَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ: وَلَا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَخَرَجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ أَدْرَيْتُكُمْ بِالْيَاءِ فَقَلَبَهَا هَمْزَةً عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: لَبَّأْتُ بِالْحَجِّ، وَرَثَأْتُ زَوْجِي بِأَبْيَاتٍ، يُرِيدُ: لَبَّيْتُ وَرَثَيْتُ. وَجَازَ هَذَا الْبَدَلُ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَالْهَمْزَةَ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ إِذَا حُرِّكَتِ الْأَلِفُ انْقَلَبَتْ هَمْزَةً كَمَا قَالُوا فِي الْعَالِمِ الْعَأْلِمُ، وَفِي الْمُشْتَاقِ الْمُشْتَأْقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْهَمْزَةُ أَصْلٌ وَهُوَ مِنَ الدَّرْءِ، وَهُوَ الدَّفْعُ يُقَالُ: دَرَأْتُهُ دَفَعْتُهُ، كَمَا قال: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ «1» وَدَرَأْتُهُ جَعَلْتُهُ دَارِئًا، وَالْمَعْنَى:
وَلَأَجْعَلَنَّكُمْ بِتِلَاوَتِهِ خصماء تدرؤونني بِالْجِدَالِ وَتُكَذِّبُونَنِي. وَزَعَمَ أَبُو الْفَتْحِ إِنَّمَا هِيَ أَدْرَيْتُكُمْ، فقلب الياء ألفا لا نفتاح مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِعَقِيلٍ حَكَاهَا قُطْرُبٌ يَقُولُونَ فِي أَعْطَيْتُكَ: أَعْطَأْتُكَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَلَبَ الْحَسَنُ الْيَاءَ أَلِفًا كَمَا فِي لغة بني الحرث بن
__________
(1) سورة النور: 24/ 8.

الصفحة 25