كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 6)

طه 13 15
بعد أخرى
{وَأَنَا اخترتك} أي اصطفيتك للنبوة والرسالة وقرئ وأنّا اخترناك بالفتح والكسر والفاء في قوه {فاستمع} لترتيب الأمرِ أو المأمورِ به على ما قبلها فإن اختيارَه عليه السلام لما ذكر مر موجبات الاستماع والأمرِ به واللام في قوله تعالى {لِمَا يُوحَى} متعلقةٌ باستمعْ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ أي فاستمع للذي يوحى إليك أو للوحي لا باخترتك كما قيل لكن لا لما قيلَ من أنه من باب التنازُعِ وإعمالِ الأول فلا بد حينئذٍ من إعادة الضميرِ مع الثاني بل لأن قوله تعالى
{إِنَّنِى أَنَا الله لاَ إله إِلا أَنَاْ} بدلٌ من ما يوحى ولا ريب في أن اختيارَه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ليسَ لهذا الوحي فقط والفاء في قوله تعالى {فاعبدنى} لترتيب المأمورِ به على ما قبلها فإن اختصاص الألوهية به سبحانه وتعالى من موجبات تخصيصِ العبادة به عز وجل {وأقم الصلاة} خُصت الصلاةُ بالذكر وأُفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتِها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبودِ وشُغل القلبِ واللسانِ بذكره وذلك قوله تعالى {لذكري} أي لتذكرني فإني ذِكْري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادةِ والصلاة أو لتذكُرني فيها لاشتمالها على الأذكار أو لذكري خاصةً لا تشوبُه بذكر غيري أو لإخلاص ذكري وابتغاءِ وجهي لا تُرائي بها ولا تقصِدُ بها غرضاً آخرَ أو لتكون ذاكراً لي غيرَ ناس وقيل لذكري إياها وأمْري بها في الكتب أو لأنْ أذكُرَك بالمدح والثناء وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيتُ الصلاة أو لذِكْر صلاتي لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال من نام عن صلاة أو نسِيَها فليصلِّها إذا ذكرها لأن الله تعالى يقول وأقم الصلاة لذكري وقرئ لذكرى بألف التأنيثِ وللذكرى معروفا وللذكْر بالتعريف والتنكير وقوله تعالى
{إن الساعة آتية} تعليلٌ لوجوب العبادة وإقامةِ الصلاة أي كائنةٌ لا محالة وإنما عُبّر عن ذلك بالإتيان تحقيقاً لحصولها بإبرازها في معرِض أمرٍ محققٍ متوجِّهٍ نحو المخاطبين {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي لا أظهرها بأن أقول إنها آتية لولا أن ما في الإخبار بذلك من اللطف وقطعِ الأعذار لما فعلتُ أو أكاد أظهرُها بإيقاعها من أخفاه إذا أظهره بسلب خفائِه ويؤيده القراءةُ بفتح الهمزة من خفاه بمعنى أظهره وقيل أخفاه من الأضداد يجيء بمعنى الإظهار والسَّترِ وقوله تعالى {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} متعلقٌ بآتيةٌ وما بينهما اعتراضٌ أو بأخفيها على المعنى الأخير وما مصدرية أي لتُجزى كلُّ نفس بسعيها في تحصيل ما ذُكر منَ الأمورِ المأمور بها وتخصيصُه في معرِض الغاية لإتيانها مع أنه الجزاء كلِّ نفس بما صدر عنها سواءٌ كان سعياً فيما ذكر أو تقاعداً عنه بالمرة أو سعياً في تحصيل ما يُضادّه للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذاتِ من إتيانها هو الإثابةُ بالعبادة وأما العقابُ بتركها فمن مُقتَضَيات سوءِ اختيارِ العصاة وبأن المأمورَ به في قوة الوجوبِ والساعةَ في شدة الهول والفظاعة بحيث يوجِبان على كل نفسٍ أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجِدَّ في تحصيل ما ينجّيها من الطاعات وحينئذ تحترز عن

الصفحة 8