كتاب مسند أحمد - الميمنية تصوير عالم الكتب (اسم الجزء: 6)
فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ السُّوقَ إِذَا رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ ، جَاءَ بِطَعَامٍ يَبِيعُهُ ، يَقُولُ : مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ ، فَأَتَانِي وَأَتَانِي بِصَحِيفَةٍ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ ، فَإِذَا فِيهَا : أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ ، قَدْ جَفَاكَ ، وَأَقْصَاكَ ، وَلَسْتَ بِدَارِ مَضْيَعَةٍ ، وَلاَ هَوَانٍ ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ ، فَقُلْتُ : هَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاَءِ وَالشَّرِّ ، فَسَجَرْتُ لَهَا التَّنُّورَ ، وَأَحْرَقْتُهَا فِيهِ.
فَلَمَّا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً ، إِذَا رَسُولٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَانِي ، فَقَالَ : اعْتَزِلْ امْرَأَتَكَ ، فَقُلْتُ : أُطَلِّقُهَا ؟ قَالَ : لاَ ، وَلَكِنْ لاَ تَقْرَبَنَّهَا ، فَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلاَلٍ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَعِيفٌ ، فَهَلْ تَأْذَنُ لِي أَنْ أَخْدُمَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنَّكِ ، قَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، مَا بِهِ حَرَكَةٌ لِشَيْءٍ ، مَا زَالَ مُكِبًّا يَبْكِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.
قَالَ كَعْبٌ : فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ الْبَلاَءُ ، اقْتَحَمْتُ عَلَى أَبِي قَتَادَةَ حَائِطَهُ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّي - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ ، فَقُلْتُ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ ، أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ ، ثُمَّ قُلْتُ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ ، أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَلَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ بَكَيْتُ ، ثُمَّ اقْتَحَمْتُ الْحَائِطَ خَارِجًا.
حَتَّى إِذَا مَضَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَنْ كَلاَمِنَا ، صَلَّيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا صَلاَةَ الْفَجْرِ ، ثُمَّ جَلَسْتُ وَأَنَا فِي الْمَنْزِلَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْنَا الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، وَضَاقَتْ عَلَيْنَا أَنْفُسُنَا ، إِذْ سَمِعْتُ نِدَاءً مِنْ ذُرْوَةِ سَلْعٍ : أَنْ أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا ، وَعَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَاءَنَا بِالْفَرَجِ ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يَرْكُضُ عَلَى فَرَسٍ يُبَشِّرُنِي ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ فَرَسِهِ ، فَأَعْطَيْتُهُ ثَوْبَيَّ بِشَارَةً ، وَلَبِسْتُ ثَوْبَيْنِ آخَرَيْنِ.
وَكَانَتْ تَوْبَتُنَا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَ اللَّيْلِ ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَشِيَّتَئِذٍ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَلاَ نُبَشِّرُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ ؟ قَالَ : إِذًا يَحْطِمَنَّكُمُ النَّاسُ ، وَيَمْنَعُونَكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً مُحْتَسِبَةً فِي شَأْنِي ، تَحْزَنُ بِأَمْرِي.
فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَهُوَ يَسْتَنِيرُ كَاسْتِنَارَةِ الْقَمَرِ ، وَكَانَ إِذَا سُرَّ بِالأَمْرِ ، اسْتَنَارَ ، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ يَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ، قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَمِنْ عِنْدِ اللهِ ، أَوْ مِنْ عِنْدِكَ ؟ قَالَ : بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، ثُمَّ تَلاَ عَلَيْهِمْ : {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} حَتَّى بَلَغَ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
قَالَ : وَفِينَا نَزَلَتْ أَيْضًا {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِلَى رَسُولِهِ ، فَقَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ، قُلْتُ : فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ.
قَالَ : فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ نِعْمَةً بَعْدَ الإِِسْلاَمِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَدَقْتُهُ أَنَا وَصَاحِبَايَ ، أَنْ لاَ نَكُونَ كَذَبْنَا 10 ، فَهَلَكْنَا كَمَا هَلَكُوا ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبْلَى أَحَدًا فِي الصِّدْقِ ، مِثْلَ الَّذِي أَبْلاَنِي مَا تَعَمَّدْتُ لِكَذْبَةٍ بَعْدُ ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ.
الصفحة 389
476