كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 6)

أنه يحصل بعد النظر في ذلك علمان ضروريَّانِ عقلي وسمعي.
أما العقليُّ: فمثاله: عِلْمُنا أن الزجاج ينكسر بالحديد، ولعل الواحد منا ما كسر زجاجة واحدة، وكذلك جميع العاديات، لأنا نعلم أنه لا تأثير في ذلك لاختلاف الأزمان والبلدان والقادرين منا، ومن ثم قال الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه: {أعلمُ أنَّ الله على كُلِّ شيءٍ قديرٌ} [البقرة: 259].
وأما السمعي: فقد اتفق العقلاء على أنه يُفهم من مقصود المتكلم ما لم ينطق، كما يفهم تحريم ضرب الوالدين من تحريم أذاهما وانتهارهما، والذي يَحْسِمُ مادة النزاع في هذا بين المسلمين أن إجماعهم منعقد، والعلم الضروري من دينهم أنه يجب الجزم بقدرة الرب تعالى على كل شيء على العموم، ولا يقال: يخرج من ذلك المحال، لأنه ليس بشيء، فلم يدخل في العموم حتى يخرُجَ منه، وأن الاحتجاج بهذا العموم على الجزئيات التي لا نصَّ فيها على قدرة الله تعالى عليها بأعيانها احتجاجٌ صحيح، والدليل القاطع على هذا من العقل أن البنية التي تقبل اللطف، والبنية التي لا تقبل عارضتان غير ذاتيتين (¬1) عقلا وسمعاً وإجماعاً، ولا نزاع في قدرة الله تعالى على تغيير ما هو خلقه من الأمور العارضة الممكنة.
والعجب من المعتزلة أنهم بالغوا في الاعتذار للرب عزَّ وجلَّ حتى أقاموا العذر للعبد، فإن الله تعالى متى خلق العبد على بنية يعجز الرب عن هدايته معها، فإن العبد يكون أعجز عن هداية نفسه مع ذلك بالنظر إلى الدواعي، وهذا يناقض أصل مذهبهم في إزاحة الأعذار، وتقبيح خلق المفاسد، فلا أعظم مفسدةً من إيجاد بنية لا تدخل في مقدور الربِّ، ولا في معلوم اللطف لها على زعمهم (¬2)، وإن كان (¬3) الحق بطلان زعمهم لقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
¬__________
(¬1) في الأصلين: ذاتيين.
(¬2) في (ش): لها فإنها.
(¬3) ساقطة من (ش).

الصفحة 18