كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 6)

الغني الحميد يكفي داعياً إلى الفعل، وباعثاً عليه، ومصحِّحاً لوقوعه بالنظر إلى القدرة كما مضى في اعتبار الجهتين في تفسير القدر، فخذه من هنالك.
ولم تَجْرِ عاداتُ الساداتِ في الدنيا بإعلام عبيدهم بفوائد أوامرهم ومشاركتهم لهم في تفاصيل أسرارهم، وغايات مقاصدهم، ولا نُسِبَ من طوى ذلك عن عبيده إلى العبث واللعب في أوامره، فكيف يطرق ذلك عبيد السوء إلى ملك الملوك وأحكم الحاكمين، وعلام الغيوب، بسبب عدم مشاركته لهم (¬1) في سِرِّه المكنون في إبرازه، وغاياته الحميدة في أفعاله وأحكامه، وإلى هذا الإشارة بقوله (¬2) تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وقوله: {ولا يُحِيطونَ بشيءٍ من عِلمِه إلاَّ بما شاء} [البقرة: 255]، وقوله: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] وأمثالها.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: " اعملوا " مع هذا الوجه فائدةٌ لطيفة، وهو أنه لم يأمر بالعمل، وصدر جوابه عليهم (¬3) بأن " كلاًّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له " لم يبعد أن يتوهَّم بعضهم سقوط الوجوب الشرعي، وبطلان الأوامر التى هي حجة الله على خلقه وثمرة إرساله رسله صلوات الله عليهم، كما تقدم في الآيات المذكورة في الوجه الأول.
وأمَّا الأسلوب الجدلي: فهو أن العمل مطلوبٌ مقدَّرٌ، كما أن المطلوب به -وهو الجزاء- مرادٌ مقدَّرٌ، والمقدَّرات كلها مقطوعٌ بوقوعها على وجوهها التي يقع عليها على التفصيل، سواء أكانت المقدرات مطلوبةً في البداية من العبيد بالأمر، كأفعالهم الاختيارية في الدنيا، أو مرادةً في النهاية للرب سبحانه جزاء
¬__________
(¬1) في (ف): " مشاركتهم له ".
(¬2) في (ف): " بنحو قوله ".
(¬3) " عليهم " ساقطة من (ف).

الصفحة 374