كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 6)

وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما والأعرج وعيسى البصرة «يعصرون» على البناء للمفعول، وعن عيسى- تعصرون- بالفوقانية مبنيا للمفعول أيضا من عصره الله تعالى إذا أنجاه أي ينجيهم الله سبحانه مما هم فيه من الشدة، وهو مناسب لقوله: يُغاثُ النَّاسُ وعن أبي عبيدة وغيره أخذ المبني للفاعل من العصر بمعنى النجاة أيضا، وفي البحر تفسير العصر والعصرة بالضم بالمنجاة، وأنشد قول أبي زبيد في عثمان رضي الله تعالى:
صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
وقال ابن المنير: معناه عصيرون من أعصرت السحابة عليهم أي حان وقت عصر الرياح لها لتمطر فعلى صلة الفعل كما في عصرت الليمون على الطعام فحذفت وأوصل الفعل بنفسه، أو تضمن أعصرت معنى مطرت فتعدى تعديته، وفي الصحاح عصر القوم أي أمطروا، ومنه قراءة بعضهم، وفيه يَعْصِرُونَ وظاهره أن اللفظ موضوع لذلك فلا يحتاج إلى التضمين عليه، وحكى النقاش أنه قرىء «يعصرون» بضم الياء وكسر الصاد وتشديدها من عصر مشددا للتكثير، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «وفيه تعصرون» بكسر التاء والعين والصاد وتشديدها، وأصله- يعتصرون- فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين، وأتبع حركة التاء لحركة العين، واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه أو من اعتصر بمعنى نجا، ومن ذلك قوله:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ثم إن أحكام هذا العام المبارك كما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة علم آتاه الله تعالى علمه لم يكن فيما سئل عنه، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعنيا أن ذلك بالوحي وهو الظاهر، ولقد أتى عليه السّلام بما يدل على فضله في آخر فتواه على عكس ما فعل أولا عند الجواب عن رؤيا صاحبيه حيث أتى بذلك في أولها ووجه ذلك ظاهر، وقيل: إن هذه البشارة منه عليه السّلام لم تكن عن وحي بل لأن العادة جارية بأن انتهاء الجدب الخصب، أو لأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده سبحانه بعد ما ضيق عليهم، وفيه أنه لو كان كذلك لأجمل في البشارة، وإن حصر الجدب يقتضي تغييره بخصب مالا على ذكره خصوصا على ما تقتضيه بعض القراءات من إغاثة بعضهم بعضا فإنها لا تعلم إلّا بالوحي، ثم إنه عليه السّلام بعد أن أفتاهم وأرشدهم وبشرهم كان يتوقع وقوع ما أخبر به، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه عليه السّلام كان بعد ذلك يصنع لرجل طعام اثنين فيقربه إلى الرجل فيأكل نصفه ويدع نصفه حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله، فقال عليه السّلام: هذا أول يوم من الشداد، واستدل البلخي بتأويله لذلك على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على ما عبرت أولا فإنهم كانوا قد قالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ فلو كان ما قالوه مؤثرا شيئا لأعرض عليه السّلام عن تأويلها وفيه بحث، فقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت، ولا تقصها إلّا على وادّ وذي رأي، ولعله إذا صح هذا يلتزم القول بأن الحكم على الرؤيا بأنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ وأنها لا ذيل لها ليس من التعبير في شيء، وإلّا فالجمع بين ما هنا وبين الخبر مشكل.
وقال ابن العربي: إنه ينبغي أن يخص ذلك بما يحتمل من الرؤيا وجوها فيعبر بأحدها فيقع عليه، واستدلوا بذلك أيضا على صحة رؤيا الكافر وهو ظاهر، وقد ذكروا للاستفتاء عن الرؤيا آدابا: منها أن لا يكون ذلك عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو في الليل، وقالوا: إن تعبيرها مناما هو تعبيرها في نفسي الأمر فلا تحتاج إلى تعبير بعد، وأكثروا القول فيما يتعلق بها، وأكثر ما قيل مما لا يظهر لي سره ولا أرى بعض ذلك إلّا كأضغاث أحلام وَقالَ الْمَلِكُ بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقطمير.

الصفحة 446