كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 6)
جرّ وخروجه عن الظرفية غير ثابت، وفي الاستدلال بالحديث السابق مقال، وأيا ما كان فهو هنا متعلق- بحصحص- أي حصحص الحق في هذا الوقت أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ لا أنه راودني عن نفسي، وإنما قالت ذلك بعد اعترافها تأكيدا لنزاهته عليه السلام، وكذا قولها: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي في قوله حين افتريت عليه هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف: 26] قيل: إن الذي دعاها لذلك كله التوخي لمقابلة الأعراف حيث لا يجدي الإنكار بالعفو، وقيل: إنها لما تناهت في حبه لم تبال بانتهاك سترها وظهور سرها، وفي إرشاد العقل السليم أنها لم ترد بقولها:
الْآنَ إلخ مجرد ظهور ما ظهر بشهادة النسوة من مطلق نزاهته عليه السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطن خصوصا فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهور ما هو متحقق في نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه السلام في محل النزاع وخيانتها، ولهذا قالت: أَنَا راوَدْتُهُ إلخ، وأرادت- بالآن- زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن اهـ فافهم وتأمل هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم يتمالك الخصماء من الشهادة بها على أتم وجه:
والفضل ما شهدت به الخصماء وليت من نسب إليه السوء- وحاشاه- كان عنده عشر معشار ما كان عند أولئك النسوة الشاهدات من الإنصاف ذلِكَ لِيَعْلَمَ الذي ذهب إليه غير واحد أن ذلك إشارة إلى التثبت مع ما تلاه من القصة أجمع (¬1) فهو من كلام يوسف عليه السلام جعله فذلكة منه لما نهض له أولا من التشمر لطهارة ذيله وبراءة ساحته، وقد حكى الله تعالى ما وقع من ذلك طبق الوجود مع رعاية ما عليه دأب القرآن من الإيجاز كحذف فرجع إلى ربه فأنهاه مقالة يوسف فأحضرهن سائلا قال: ما خَطْبُكُنَّ إلخ وكذلك كما قيل في قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ إلخ، وكذلك هذا أيضا لأن المعنى فرجع إليه الرسول قائلا فتش الملك عن كنه الأمر وبان له جلية الحق من عصمتك وأنك لم ترجع في ذلك المقام الدحض بمس ملام فعند ذلك قال عليه السلام: ذلِكَ لِيَعْلَمَ العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في حرمته بِالْغَيْبِ أي بظهر الغيب، وقيل: ضمير يعلم للملك، وضمير أَخُنْهُ للعزيز، وقيل: للملك أيضا لأن خيانة وزيره خيانة له، والباء إما للملابسة أو للظرفية، وعلى الأول هو حال من فاعل أَخُنْهُ أي تركت خيانته وأنا غائب عنه، أو من مفعوله أي وهو غائب عني وهما متلازمان، وجوز أن يكون حالا منهما وليس بشيء، وعلى الثاني فهو ظرف لغو لما عنده أي لَمْ أَخُنْهُ بمكان الغيب وراء الإستار والأبواب المغلقة، ويحتمل الحالية أيضا وَأَنَّ اللَّهَ أي وليعلم أن الله تعالى.
لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي لا ينفذه ولا يسدّده بل يبطله ويزهقه فهداية الكيد مجاز عن تنفيذه، ويجوز أن يكون المراد لا يهدي الخائنين (¬2) بسبب كيدهم فأوقع الهداية المنفية على الكيد وهي واقعة عليهم تجوزا للمبالغة لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبه في خيانته أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا الآيات الدالة على نزاهته عليه السلام، ويجوز أن يكون مع
¬__________
(¬1) وفي الكشاف صح ذلك لدلالة المعنى عليه ونحوه قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ [الأعراف: 109، 110] ، وفيه دغدغة اهـ منه.
(¬2) في عبارة بعضهم بكيدهم فالباء إما متعلقة بالفعل أو متعلقة بالخائنين، وفيه تنبيه على أنه تعالى يهدي كيد من لم يقصد الخيانة بكيده كيوسف عليه السلام في كيده إخوته كذا قيل، فتدبر اهـ منه.
الصفحة 450
454