كتاب تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (اسم الجزء: 6)

قال الله سبحانه: انطلق فقد سلّطتك على ولده، فانقضّ عدوّ الله حتى جاء بني أيّوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثّل بهم كلّ مثلة رفع بهم القصر وقلبه فصاروا منكّسين، وانطلق إلى أيّوب متمثّلا بالمعلّم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره بذلك وقال: يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عذّبوا وكيف قلبوا فكانوا منكّسين على رؤوسهم، تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأشفارهم وأجوافهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ونحوه ويرقّقه حتى رقّ أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيّوب مسرورا به، ثمّ لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر، فاستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فبدروا إبليس إلى الله سبحانه وهو أعلم، فوقف إبليس خازيا ذليلا فقال: يا إلهي إنّما هوّن على أيّوب خطر المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فأنى لك زعم لئن ابتليته في جسده لينسينّك وليكفرنّ بك وليجحدنّك نعمتك.
فقال الله سبحانه: انطلق فقد سلّطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله تعالى هو أعلم به، لم سلطه عليه إلّا رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كلّ بلاء نزل بهم ليتأسّوا به في الصبر ورّجاء الثواب.
وانقض عدو الله إبليس سريعا فوجد أيوب ساجدا فعجّل قبل أن يرفع رأسه «1» فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده فذهل وخرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم وقعت فيه حكّة لا يملكها، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخّار والحجارة الخشنة فلم يزل حكها حتى نفل لحمه وتقطع وتغير وأنتن.
فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، وكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم: اليفر ويلدد وصافر ما ابتلاه الله سبحانه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه ولاموه وقالوا له: تب إلى الله سبحانه من الذنب الذي عوقبت به، قال: وحضر معهم فتى حديث السن وكان قد آمن به وصدّقه فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لأسنانكم «2» ، ولكن قد تركتم من القول
__________
(1) في نسخة أصفهان زيادة: من السجود.
(2) كذا في المخطوط، وفي تفسير الطبري: وأولى به مني لحق أسنانكم، والأصح: لسنّكم.

الصفحة 290