كتاب تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (اسم الجزء: 6)

الصخور، وكأنّ صريف أسنانه أصوات الصواعق، وكأنّ نظر عينيه لهب البرق، وتمرّ به الجيوش وهو متكئ لا يفزعه شيء، ليس فيه مفصل الحديد، عنده مثل الطين، والنحاس، عنده مثل الخيوط لا يفزع من النشّاب ولا يحسّ وقع الصخور على جسده، ويسير في الهواء كأنّه عصفور، ويهلك كلّ شيء يمرّ به، هل أنت آخذه بأحبولتك أو واضع اللجام في شدقه؟ هل تحصي عمره أم هل تعرف تقوّت رزقه أم هل تدري ماذا خرّب من الأرض؟ وماذا يخرّب فيما بقي من عمره؟
أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك؟ تبارك الله وتعالى.
فقال أيّوب: قصرت عن هذا الأمر الذي يعرض علىّ ليت الأرض انشقّت فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخط ربّي، اجتمع علىّ البلاء إلهي فجعلتني مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من هذا، ما شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية ولا تغيب عنك غائبة، من هذا الذي يظن أن يسرّ عنك سرّا وأنت تعلم ما يخطر على القلوب؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر ممّا كنت أخاف، إنّما كنت أسمع بسطوتك سمعا فأمّا الآن فهو نظر العين، إنّما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكتّ حين سكتّ لترحمني، كلمة زلّت فلن أعود، قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدّي ودسست فيه وجهي لصغاري، وسكتّ كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.
فقال الله سبحانه: يا أيوب فقد نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ليكون لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، ويكون عبرة لأهل البلاء وغزاء للصابرين ف ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ، فيه شفاؤك، وقرّب عن صحابتك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك.
فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها، فاغتسل فأذهب الله عنه كلّما كان به من البلاء، ثمّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فقامت تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالواله مترددة متحيّرة ثم قالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا؟ فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم ومالي لا أعرفه؟ فتبسم وقال: أنا هو فعرفته بمضحكه فاعتنقته.
قال ابن عباس: فو الذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد، فذلك قوله وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ «1» .
واختلف العلماء في وقت ندائه، والسبب الذي قال: لأجله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وفي مدّة بلائه.
__________
(1) بطوله في تفسير الطبري: 17/ 76 إلى 90.

الصفحة 294