كتاب طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (اسم الجزء: 6)

وَرجل جمع مَالا من حَلَال وأنفقه فِي حرَام فَيُقَال اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّار وَرجل جمع مَالا من حَلَال وأنفقه فِي حَلَال فَيُقَال قفوا هَذَا واسألوه لَعَلَّه ضيع بِسَبَب غناهُ فِيمَا فرضناه عَلَيْهِ أوقصر فِي صلَاته أَو فِي وضوئها أَو فِي سجودها أَو خشوعها أَو ضيع شَيْئا من فرض الزَّكَاة وَالْحج فَيَقُول الرجل جمعت المَال من حَلَال وأنفقته فِي حَلَال وَمَا صنيعت شَيْئا من حُدُود الْفَرَائِض بل أتيتها بِتَمَامِهَا قيقال لَعَلَّك باهيت واختلت فِي شَيْء من ثِيَابك فَيَقُول يارب مَا باهيت بِمَالي وَلَا اختلت فِي ثِيَابِي فَيُقَال لَعَلَّك فرطت فِيمَا أمرناك من صلَة الرَّحِم وَحقّ الْجِيرَان وَالْمَسَاكِين وَقصرت فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير والتفضيل وَالتَّعْدِيل ويحيط هَؤُلَاءِ بِهِ فَيَقُولُونَ رَبنَا أغنيته بَين أظهرنَا وأحوجتنا إِلَيْهِ فقصر فِي حَقنا فَإِن ظهر تَقْصِير ذهب بِهِ إِلَى النَّار وَإِلَّا قيل لَهُ قف هَات الْآن شكر كل نعْمَة وكل شربة وكل أَكلَة وكل لَذَّة فَلَا يزَال يسْأَل وَيسْأل)
فَهَذِهِ حَال الْأَغْنِيَاء الصَّالِحين المصلحين القائمين بِحُقُوق الله تَعَالَى أَن يطول وقوفهم فِي العرصات فَكيف حَال المفرطين المنهمكين فِي الْحَرَام والشبهات والمكاثرين بِهِ
المتنعمين بشهواتهم الَّذين قيل فيهم {أَلْهَاكُم التكاثر حَتَّى زرتم الْمَقَابِر}
فَهَذِهِ المطالب الْفَاسِدَة هِيَ الَّتِي استولت على قُلُوب الْخلق فسخرها للشَّيْطَان وَجعلهَا ضحكة لَهُ فَعَلَيهِ وعَلى كل مُسْتَمر فِي عَدَاوَة نَفسه أَن يتَعَلَّم علاج هَذَا الْمَرَض الَّذِي حل بالقلوب
فعلاج مرض الْقلب أهم من علاج مرض الْأَبدَان وَلَا ينجو إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم
وَله دواءان أَحدهمَا مُلَازمَة ذكر الْمَوْت وَطول التَّأَمُّل فِيهِ مَعَ الِاعْتِبَار بخاتمة الْمُلُوك وأرباب الدُّنْيَا أَنهم كَيفَ جمعُوا كثيرا وبنوا قصورا وفرحوا بالدنيا بطرا وغرورا فَصَارَت قصورهم قبورا وَأصْبح جمعهم هباء منثورا {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} {أولم يهد لَهُم كم أهلكنا من قبلهم من الْقُرُون يَمْشُونَ فِي مساكنهم إِن فِي ذَلِك لآيَات أَفلا يسمعُونَ} فقصورهم وأملاكهم ومساكنهم صوامت ناطقة تشهد بِلِسَان حَالهَا على غرور عمالها
فَانْظُر الْآن فِي جَمِيعهم {هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا}
الدَّوَاء الثَّانِي تدبر كتاب الله تَعَالَى فَفِيهِ شِفَاء وَرَحْمَة للْعَالمين
وَقد أوصى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بملازمة هذَيْن الواعظين فَقَالَ (تركت فِيكُم واعظين صامتا وناطقا والصامت الْمَوْت والناطق الْقُرْآن)

الصفحة 264