كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 6)

وَالِاسْتِمَاع لقرَاءَته، فَإِن كَانَ مِنْهُ فِي مقَام بعيد فَهُوَ بِمَنْزِلَة صَلَاة السِّرّ. وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : لم يخْتَلف قَول مَالك: إِنَّه من نَسِيَهَا أَي: الْفَاتِحَة فِي رَكْعَة من صَلَاة ذَات رَكْعَتَيْنِ أَن صلَاته تبطل أصلا وَلَا تجزيه. وَاخْتلف قَوْله فِيمَن تَركهَا نَاسِيا فِي رَكْعَة من الصَّلَاة الرّبَاعِيّة أَو الثلاثية، فَقَالَ مرّة: يُعِيد الصَّلَاة وَلَا تجزيه، وَهُوَ قَول ابْن الْقَاسِم وَرِوَايَته واختياره من قَول مَالك، وَقَالَ مرّة أُخْرَى: يسْجد سَجْدَتي السَّهْو وتجزيه، وَهِي رِوَايَة ابْن عبد الحكم وَغَيره عَنهُ. قَالَ: وَقد قيل: إِنَّه يُعِيد تِلْكَ الرَّكْعَة وَيسْجد للسَّهْو بعد السَّلَام. قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَا تجزيه حَتَّى يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب فِي كل رَكْعَة. وَفِي (الْمُغنِي) وَرُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وخوات بن جُبَير أَنهم قَالُوا: لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب. وَعَن أَحْمد: إِنَّهَا لَا تتَعَيَّن، وتجزيه قِرَاءَة آيَة من الْقُرْآن من أَي مَوضِع كَانَ. وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَقِرَاءَة أم الْقُرْآن فرض فِي كل رَكْعَة من كل صَلَاة، إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَالْفَرْض والتطوع سَوَاء، وَالرِّجَال وَالنِّسَاء سَوَاء. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَة، وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعبد الله بن وهب وَأَشْهَب: لَا يقْرَأ الْمُؤْتَم شَيْئا من الْقُرْآن وَلَا بِفَاتِحَة الْكتاب فِي شَيْء من الصَّلَوَات، وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب فِي جمَاعَة من التَّابِعين، وفقهاء الْحجاز وَالشَّام على أَنه: لَا يقْرَأ مَعَه فِيمَا يجْهر بِهِ وَإِن لم يسمعهُ وَيقْرَأ فِيمَا يسر فِيهِ الإِمَام، ثمَّ وَجه اسْتِدْلَال الشَّافِعِي وَمن مَعَه بِهَذَا الحَدِيث، وَهُوَ أَنه: نفى جنس الصَّلَاة عَن الْجَوَاز إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب.
وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا بقوله تَعَالَى: {فاقرؤا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} (المزمل: 20) . أَمر الله تَعَالَى بِقِرَاءَة مَا تيَسّر من الْقُرْآن مُطلقًا، وتقييده بِالْفَاتِحَةِ زِيَادَة على مُطلق النَّص، وَذَا لَا يجوز لِأَنَّهُ نسخ، فَيكون أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الْقُرْآن فرضا لكَونه مَأْمُورا بِهِ، وَأَن الْقِرَاءَة خَارج الصَّلَاة لَيست بِفَرْض، فَتعين أَن يكون فِي الصَّلَاة. فَإِن قلت: هَذِه الْآيَة فِي صَلَاة اللَّيْل، وَقد نسخت فرضيتها، وَكَيف يَصح التَّمَسُّك بهَا؟ قلت: مَا شرع ركنا لم يصر مَنْسُوخا، وَإِنَّمَا نسخ وجوب قيام اللَّيْل دون فرض الصَّلَاة وشرائطها وَسَائِر أَحْكَامهَا، وَيدل عَلَيْهِ أَنه أَمر بِالْقِرَاءَةِ بعد النّسخ بقوله: {فاقرؤا مَا تيَسّر مِنْهُ} (المزمل: 20) . وَالصَّلَاة بعد النّسخ بقيت نفلا، وكل من شَرط الْفَاتِحَة فِي الْفَرْض شَرطهَا فِي النَّفْل، وَمن لَا فَلَا، وَالْآيَة تَنْفِي اشْتِرَاطهَا فِي النَّفْل، فَلَا تكون ركنا فِي الْفَرْض لعدم الْقَائِل بِالْفَصْلِ. فَإِن قلت: كلمة: مَا، مجملة، والْحَدِيث معِين ومبين، فالمعين يقْضِي على الْمُبْهم. قلت: كل من قَالَ بِهَذَا يدل على عدم مَعْرفَته بأصول الْفِقْه، لِأَن كلمة: مَا، من أَلْفَاظ الْعُمُوم يجب الْعَمَل بعمومها من غير توقف، وَلَو كَانَت مجملة لما جَازَ الْعَمَل بهَا قبل الْبَيَان كَسَائِر مجملات الْقُرْآن، والْحَدِيث مَعْنَاهُ أَي: شَيْء تيَسّر، وَلَا يسوغ ذَلِك فِيمَا ذَكرُوهُ، فَيلْزم التّرْك بِالْقُرْآنِ والْحَدِيث، وَالْعَام عندنَا لَا يحمل على الْخَاص مَعَ مَا فِي الْخَاص من الِاحْتِمَالَات. فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث مَشْهُور فَإِن الْعلمَاء تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ فَتجوز الزِّيَادَة بِمثلِهِ. قلت: لَا نسلم أَنه مَشْهُور، لِأَن الْمَشْهُور مَا تَلقاهُ التابعون بِالْقبُولِ، وَقد اخْتلف التابعون فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَلَئِن سلمنَا أَنه مَشْهُور فَالزِّيَادَة بالْخبر الْمَشْهُور إِنَّمَا تجوز إِذا كَانَ محكما، أما إِذا كَانَ مُحْتملا فَلَا، وَهَذَا الحَدِيث مُحْتَمل، لِأَن مثله يسْتَعْمل لنفي الْجَوَاز، وَيسْتَعْمل لنفي الْفَضِيلَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إلاّ فِي الْمَسْجِد) ، وَالْمرَاد نفي الْفَضِيلَة، كَذَا هُوَ، ويؤكد هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم لَا إِيمَان لَهُم} (التَّوْبَة: 12) . مَعْنَاهُ أَنه لَا أَيْمَان لَهُم موثوقا بهَا، وَلم ينف وجود الْأَيْمَان مِنْهُم رَأْسا، لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِن نكثوا إِيمَانهم من بعد عَهدهم} (التَّوْبَة: 12) . وعقب ذَلِك أَيْضا بقوله: {أَلاَ تقاتلون قوما نكثوا أَيْمَانهم} (التَّوْبَة: 13) . فَثَبت أَنه لم يرد بقوله: {أَنهم لَا أَيْمَان لَهُم} (التَّوْبَة: 12) . نفى الايمان أصلا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ، وَهَذَا يدل على إِطْلَاق لَفْظَة: لَا، وَالْمرَاد بهَا نفي الْفَضِيلَة دون الأَصْل، كَمَا ذكرنَا من النظير، وَقَالَ بَعضهم: وَلِأَن نفي الْأَجْزَاء أقرب إِلَى نفي الْحَقِيقَة، وَلِأَنَّهُ السَّابِق إِلَى الْفَهم فَيكون أولى، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق الْعَبَّاس بن الْوَلِيد الْقرشِي أحد شُيُوخ البُخَارِيّ عَن سُفْيَان بِلَفْظ: (لَا تجزىء صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِفَاتِحَة الْكتاب) . قلت: لَا نسلم قرب نفي الْأَجْزَاء إِلَى نفي الْحَقِيقَة، لِأَنَّهُ مُحْتَمل لنفي الْأَجْزَاء ولنفي الْفَضِيلَة، وَالْحمل على نفي الْكَمَال أولى، بل يتَعَيَّن لِأَن نفي الْأَجْزَاء يسْتَلْزم نفي الْكَمَال فَيكون فِيهِ نفي شَيْئَيْنِ، فتكثر الْمُخَالفَة فَيتَعَيَّن نفي الْكَمَال، ودعواه التأييد بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي أخرجه الإسماعيل وَابْن خُزَيْمَة لَا يفِيدهُ، لِأَن هَذَا لَيْسَ لَهُ من الْقُوَّة مَا يُعَارض مَا أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة، على أَن ابْن حبَان قد ذكر أَنه لم يقل فِي خبر الْعَلَاء ابْن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة إلاّ شُعْبَة، وَلَا عَنهُ إلاّ وهب بن جرير، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا) : وَقد أخرج ابْن خُزَيْمَة عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْقرشِي عَن سُفْيَان حَدِيث الْبَاب، وَلَفظه: (لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب) ، فَلَا يمْنَع أَن يُقَال: إِن قَوْله:

الصفحة 11