كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 6)

لَا صَلَاة، نفي بِمَعْنى النَّهْي أَي: لَا تصلوا إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب، وَنَظِيره مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق الْقَاسِم عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مَرْفُوعا: (لَا صَلَاة بِحَضْرَة الطَّعَام) فَإِنَّهُ فِي (صَحِيح ابْن حبَان) بِلَفْظ: (لَا يُصَلِّي أحدكُم بِحَضْرَة الطَّعَام) . قلت: تنظيره بِحَدِيث مُسلم غير صَحِيح، لِأَن لفظ حَدِيث ابْن حبَان غير نهي بل هُوَ نفي الْغَائِب، وَكَلَامه يدل على أَنه لَا يعرف الْفرق بَين النَّفْي وَالنَّهْي. وَقَالَ أَيْضا: اسْتدلَّ من أسقطها أَي: من أسقط قِرَاءَة الْفَاتِحَة عَن الْمَأْمُوم مُطلقًا يَعْنِي أسر الإِمَام أَو جهر كالحنفية بِحَدِيث: (من صلى خلف الإِمَام فقراءة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) ، لكنه حَدِيث ضَعِيف عِنْد الْحفاظ، وَقد استوعب طرقه وَعلله الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره. قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم: جَابر بن عبد الله وَابْن عمر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وانس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَحَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ لَهُ إِمَام فَإِن قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) . وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) . وَحَدِيث أبي سعيد أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث سهل بن صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا نَحوه سَوَاء. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يَكْفِيك قِرَاءَة الإِمَام خَافت أَو جهر) . وَحَدِيث أنس أخرجه ابْن حبَان فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : عَن غنيم بن سَالم عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) ،. فَإِن قلت: فِي حَدِيث جَابر بن عبد الله جَابر الْجعْفِيّ وَهُوَ مَجْرُوح، كذبه أَبُو حنيفَة وَغَيره، وَفِي حَدِيث أبي سعيد إِسْمَاعِيل بن عمر بن نجيح وَهُوَ ضَعِيف، وَحَدِيث ابْن عمر مَوْقُوف، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَفعه وهم؛ وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أَحْمد هُوَ حَدِيث مُنكر: وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَا يَصح عَن سُهَيْل، وَتفرد بِهِ مُحَمَّد بن عباد وَهُوَ ضَعِيف، وَفِي حَدِيث أنس غنيم بن سَالم قَالَ ابْن حبَان: هُوَ مُخَالف الثِّقَات فِي الرِّوَايَات فَلَا تعجبني الرِّوَايَة عَنهُ، فَكيف الِاحْتِجَاج؟ قلت: أما حَدِيث جَابر فَلهُ طرق أُخْرَى يشد بَعْضهَا بَعْضًا: مِنْهَا طَرِيق صَحِيح، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن فِي (الْمُوَطَّأ) عَن أبي حنيفَة، قَالَ: أخبرنَا الإِمَام أَبُو حنيفَة حَدثنَا أَبُو الْحسن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبد الله بن شَدَّاد عَن جَابر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى خلف الإِمَام فَإِن قِرَاءَة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) . فَإِن قلت: هَذَا حَدِيث أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي حنيفَة مَقْرُونا بالْحسنِ بن عمَارَة وَعَن الْحسن بن عمَارَة وَحده بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لم يسْندهُ عَن جَابر بن عبد الله غير أبي حنيفَة وَالْحسن بن عمَارَة وهما ضعيفان، وَقد رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو الْأَحْوَص وَشعْبَة وَإِسْرَائِيل وَشريك وَأَبُو خَالِد الدالاني وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَغَيرهم عَن أبي الْحسن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبد الله بن شَدَّاد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، وَهُوَ الصَّوَاب. قلت: لَو تأدب الدَّارَقُطْنِيّ واستحيى لما تلفظ بِهَذِهِ اللَّفْظَة فِي حق أبي حنيفَة فَإِنَّهُ إِمَام طبق علمه الشرق والغرب، وَلما سُئِلَ إِبْنِ معِين عَنهُ فَقَالَ: ثِقَة مَأْمُون مَا سَمِعت أحدا ضعفه، هَذَا شُعْبَة بن الْحجَّاج يكْتب إِلَيْهِ أَن يحدث وَشعْبَة شُعْبَة. وَقَالَ أَيْضا: كَانَ أَبُو حنيفَة ثِقَة من أهل الدّين والصدق وَلم يتهم بِالْكَذِبِ، وَكَانَ مَأْمُونا على دين الله تَعَالَى، صَدُوقًا فِي الحَدِيث، وَأثْنى عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأَئِمَّة الْكِبَار مثل عبد الله بن الْمُبَارك، ويعد من أَصْحَابه، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وَحَمَّاد بن زيد وَعبد الرَّزَّاق ووكيع، وَكَانَ يُفْتِي بِرَأْيهِ وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَقد ظهر لَك من هَذَا تحامل الدَّارَقُطْنِيّ عَلَيْهِ وتعصبه الْفَاسِد، وَلَيْسَ لَهُ مِقْدَار بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَؤُلَاءِ حَتَّى يتَكَلَّم فِي إِمَام مُتَقَدم على هَؤُلَاءِ فِي الدّين وَالتَّقوى وَالْعلم، وبتضعيفه إِيَّاه يسْتَحق هُوَ التَّضْعِيف، أَفلا يرضى بسكوت أَصْحَابه عَنهُ وَقد روى فِي (سنَنه) أَحَادِيث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة؟ وَلَقَد روى أَحَادِيث ضَعِيفَة فِي كِتَابه (الْجَهْر بالبسملة) وَاحْتج بهَا مَعَ علمه بذلك، حَتَّى إِن بَعضهم استحلفه على ذَلِك فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيث صَحِيح. وَلَقَد صدق الْقَائِل:
(حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه ... فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم)

الصفحة 12