كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 6)

إِنَّه خص مِنْهُ الْمُقْتَدِي الَّذِي أدْرك الإِمَام فِي الرُّكُوع فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ الْقِرَاءَة بِالْإِجْمَاع، فَتجوز الزِّيَادَة عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِخَبَر الْوَاحِد. فَإِن قلت: قد حمل الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الْمعرفَة) حَدِيث: (من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) ، على ترك الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ خلف الإِمَام، وعَلى قِرَاءَة الْفَاتِحَة دون السُّورَة، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت الْمَذْكُور قلت: لَيْسَ فِي شَيْء من الْأَحَادِيث بَيَان الْقِرَاءَة خلف الإِمَام فِيمَا جهر، وَالْفرق بَين الْإِسْرَار والجهر لَا يَصح لِأَن فِيهِ إِسْقَاط الْوَاجِب بمسنون على زعمهم، قَالَه إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث فَإِن قلت: أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى صَلَاة لم يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن فَهِيَ خداج فَهِيَ خداج فَهِيَ خداج غير تَمام) ، فهدا يدل على الركنية قلت: لَا نسلم، لِأَن مَعْنَاهُ: ذَات خداج، أَي: نُقْصَان، بِمَعْنى: صلَاته نَاقِصَة، وَنحن نقُول بِهِ، لِأَن النُّقْصَان فِي الْوَصْف لَا فِي الذَّات وَلِهَذَا قُلْنَا بِوُجُوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة. فَإِن قلت: قَوْله تَعَالَى:: {فاقرؤا مَا تيَسّر} (االمزمل: 20) . عَام خص مِنْهُ الْبَعْض، وَهُوَ مَا دون الْآيَة، فَإِن عِنْد أبي حنيفَة: أدنى مَا يجزىء عَن الْقِرَاءَة آيَة تَامَّة، لِأَن مَا دون الْآيَة خَارج بِالْإِجْمَاع، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وبالقياس أَيْضا قلت: الْقُرْآن يتَنَاوَل مَا هُوَ معجز عرفا، فَلَا يتَنَاوَل مَا دون الْآيَة؟ فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا ابْن بشار حَدثنَا يحيى حَدثنَا جَعْفَر عَن أبي عُثْمَان عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أنادي أَنه: لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب فَمَا زَاد) . قلت: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ بِوُجُوه مُخْتَلفَة، فَرَوَاهُ الْبَزَّار وَلَفظه: (أَمر مناديا فَنَادَى) . وَفِي كتاب (الصَّلَاة) لأبي الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد الْخفاف: لَا صَلَاة إلاّ بقرآن وَلَو بِفَاتِحَة الْكتاب فَمَا زَاد وَفِي (الصَّلَاة) للفريابي: (أنادي فِي الْمَدِينَة أَن: لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة أَو بِفَاتِحَة الْكتاب فَمَا زَاد) وَفِي لفظ: فناديت: (أَن لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب) وَعند الْبَيْهَقِيّ: (إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب فَمَا زَاد) وَفِي (الْأَوْسَط) : (فِي كل صَلَاة قِرَاءَة وَلَو بِفَاتِحَة الْكتاب) ، وَهَذِه الْأَحَادِيث كلهَا لَا تدل على فَرضِيَّة قِرَاءَة الْفَاتِحَة، بل غالبها يَنْفِي الْفَرْضِيَّة، فَإِن دلّت إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ على عدم جَوَاز الصَّلَاة إلاّ بِالْفَاتِحَةِ دلّت الْأُخْرَى على جَوَازهَا بِلَا فَاتِحَة، فنعمل بِالْحَدِيثين، وَلَا نهمل أَحدهمَا بِأَن نقُول بفرضية مُطلق الْقِرَاءَة، وبوجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة، وَهَذَا هُوَ الْعدْل فِي بَاب أَعمال الْأَخْبَار، وَأَيْضًا فِي حَدِيث أبي دَاوُد الْمَذْكُور أَمْرَانِ: أَحدهمَا: أَن جعفرا الْمَذْكُور فِي سَنَده هُوَ جَعْفَر بن مَيْمُون فِيهِ كَلَام حَتَّى صرح النَّسَائِيّ أَنه: لَيْسَ بِثِقَة.: وَالثَّانِي: أَنه يَقْتَضِي فَرضِيَّة مَا زَاد على الْفَاتِحَة، لِأَن معنى قَوْله: (فَمَا زَاد) ، الَّذِي زَاد على الْفَاتِحَة، أَو بِقِرَاءَة الزِّيَادَة على الْفَاتِحَة، وَلَيْسَ ذَاك مَذْهَب الشَّافِعِي، وَقد روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب فَصَاعِدا) . قَالَ سُفْيَان: لمن يُصَلِّي وَحده. قلت: مَعْنَاهُ: لَا صَلَاة كَامِلَة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب زَائِدَة على الْفَاتِحَة، وَقَالَ سُفْيَان، هُوَ ابْن عُيَيْنَة أحد رُوَاة هَذَا الحَدِيث، هَذَا لمن يُصَلِّي وَحده، يَعْنِي فِي حق من يُصَلِّي وَحده، وَأما الْمُقْتَدِي فَإِن قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ، وَكَذَا قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته: إِذا كَانَ وَحده، فعلى هَذَا يكون الحَدِيث مَخْصُوصًا فِي حق الْمُنْفَرد فَلم يبْق للشَّافِعِيَّة بعد هَذَا دَعْوَى الْعُمُوم. وَحَدِيث عبَادَة هَذَا أخرجه البُخَارِيّ كَمَا ذكر وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظَة: فَصَاعِدا. فَإِن قلت: قَالَ البُخَارِيّ فِي (كتاب الْقِرَاءَة خلف الإِمَام) : وَقَالَ معمر عَن الزُّهْرِيّ: فَصَاعِدا، وَعَامة الثِّقَات لم تتَابع معمرا فِي قَوْله: فَصَاعِدا؟ قلت: هَذَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة قد تَابع معمرا فِي هَذِه اللَّفْظَة، وَكَذَلِكَ تَابعه فِيهَا صَالح وَالْأَوْزَاعِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَغَيرهم كلهم عَن الزُّهْرِيّ فَإِن قلت: أخرج أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن أَنه سمع أَبَا السَّائِب مولى هِشَام بن زهرَة يَقُول: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى صَلَاة لم يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِيه: (فَقلت: يَا أَبَا هُرَيْرَة إِنِّي أكون أَحْيَانًا وَرَاء الإِمَام، قَالَ: فغمز ذراعي وَقَالَ: إقرأ بهَا فِي نَفسك يَا فَارسي) الحَدِيث، وَالْخطاب لأبي السَّائِب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا يُؤَيّد وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة على الْمَأْمُوم، وَمَعْنَاهُ: إقرأها سرا بِحَيْثُ تسمع نَفسك. قلت: هَذَا لَا يدل على الْوُجُوب، لِأَن الْمَأْمُوم مَأْمُور بالإنصات لقَوْله تَعَالَى: {وأنصتوا} (الْأَعْرَاف: 204) . والإنصات: الإصغاء، وَالْقِرَاءَة سرا بِحَيْثُ يسمع نَفسه تخل بالإنصات، فَحِينَئِذٍ يحمل ذَلِك على أَن المُرَاد تدبر ذَلِك، وتفكره، وَلَئِن سلمنَا أَن المُرَاد هُوَ الْقِرَاءَة حَقِيقَة فَلَا نسلم أَنه يدل على الْوُجُوب، على أَن بعض أَصْحَابنَا استحسنوا ذَلِك على سَبِيل الِاحْتِيَاط فِي جَمِيع الصَّلَوَات، وَمِنْهُم من استحسنها فِي غير الجهرية، وَمِنْهُم من رأى ذَلِك

الصفحة 14