كتاب سلسلة ومضات إعجازية من القرآن والسنة النبوية (اسم الجزء: 6)

بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)، (الأنعام: 6) .. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ وأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32)، (إبراهيم: 32).
وثمة مسألة أخرى مهمة تناولتها الآية المباركة في قوله تعالى: ... فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ... ، فقد ذكر المفسرون أن المقصود بها أن تسيل هذه الأودية بمقدار طاقتها وحاجتها، وهذا قول صحيح على وجه العموم، إلا أن هناك معنى أعمق وأدق فيه إشارة واضحة إلى نظرية تعد من أهم نظريات علم المياه في وقتنا الحاضر هذا، وهي نظرية الهيدروغراف القياسي في إيجاد العلاقة بين المطر والسيح. فكلمة أودية مفردها واد، والذي يعرف بأنه مساحة الأرض التي تجمع المياه باتجاه مجرى نهري واحد، ويسمى الواد اصطلاحا بحوض النهر، والذي يمكن التعبير عنه بشكل آخر فنقول عبارة عن مساحة الأرض التي إن سقط عليها الماء قادته إلى مجرى النهر بفعل ميل سطحها، إذ تمثل حافات النهر (حافات الوادي) أعلى منطقة فيه، وعلى عكس ذلك فإن مجرى النهر يمثل أخفض منطقة في الوادي. كما أن لدرجة انحدار النهر أو ميل سطح حوض النهر أثرا كبيرا في اختلاف مقدار التصريف النهري، فكما أن اللّه تعالى قدّر أحجام هذه الأودية فإنه سبحانه قدّر أشكالها وميولها كذلك، وكل ذلك يؤثر مباشرة على كمية المياه الجارية في المجرى النهري خلال فترة زمنية محددة.
كما وجاء في الآية المباركة نفسها ... فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ... ، فأطلق الفعل على الأودية ولم يطلقه على الماء الذي يمثل بجريانه حقيقة الفعل، فصوّر لنا هذا المجاز على أن الماء يسيل على جميع مساحة الوادي ولم يقتصر سيلانه على مساحة محددة منه. كما وأن لفظ (فسالت) جاءت لتعطي الصورة الحقيقة لحركة الماء التي ستكون على جانبي الوادي حركة طباقية بسمك قليل، فهي تتحرك على جميع مساحة الوادي حركة خفيفة فتجمع مياهها شيئا فشيئا إلى أن تصب في مجرى النهر .. ونشير هنا أيضا إلى أن كلمة (أودية) جاءت بصيغة الجمع وكان من الممكن أن تأتي بصيغة المفرد كأن تقول (سال كل واد بقدره)، مع إن السيل جاء بصيغة المفرد فقال تعالى ... فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ... ، فالمعنى يوحي بأن الأودية قد جمعت الماء من

الصفحة 36