كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 6)
وقد جمع هذا الحديث كما قاله الخطابي علمًا وأدبًا، وليس قوله -عليه الصلاة والسلام- في أمته بالأمور التي يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّن ذلك ويفصح به، وأن يعرِّف الناس أمرهم, فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة, ولكنَّه لما جبل عليه من الكرم, وأعطيه من حسن الخلق, أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله, وفي مدارته ليسلموا من شره وغائلته.
__________
طلب المداراة، إذا ترتَّب عليها جلب نفع، أو دفع ضرر، وإلّا ذمَّت، فما كل جانٍ يعزر، ولا كل ذنب يغفر، قال:
ووضع الندى في موضع السيف في العدا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
"وقد جمع هذا الحديث، كما قاله الخطابي علمًا" ومنه الإخبار بأن من ترك لاتقاء شره من شر الناس، ولذا أخذ منه؛ أن ملازمة الشخص الشر والفحش، حتى يخشاه الناس لشره من الكبائر، "وأدبًا" وهو عدم المواجهة بالذم، وإن كان حقًّا، والداراة وغير ذلك، "وليس قوله -عليه الصلاة والسلام- في أمته بالأمور التي يسمهم" بفتح، فكشَّر، أي: يصفهم "بها" سماه وسما، وهو العلامة، باعتبار أنه يصير كالعلامة التي تميزهم عن غيرهم، "ويضيفها" ينسبها "إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك" غيبة "من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّن ذلك، ويفصح به، وأن يعرف الناس أمرهم، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة", وليس ذا خاصًّا به، بل ذلك على أمته أيضًا؛ إذ هو إحدى المسائل المذكورة في قوله:
تظلم واستغث واستفت حذر ... وعرف بدعة فسق المجاهر
"ولكنه، لما جبل عليه من الكرم، وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة، ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله" وذلك عذر مسقط للوجوب عن الأمة لا عنه -صلى الله عليه وسلم، فلا يسقط وجوب أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، خشية العاقبة لقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] الآية، فلعلَّ حكمة تركه هنا ما علمه أنَّ طلاقة الوجه مع هذا ونحوه سبب لإيمانه وإيمان قومه، فترك التشديد عليهم إنما هو للمصلحة العامة التي اقتضت ذلك؛ "وفي مداراته ليسلموا من شره وعائلته" عطف مرادف، فالغائلة لغةً الشر، واعترض بأن ظاهر كلامه أن هذا من الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطّلع من حال شخص على شيء، وخشي أن غيره يغتر؛ بجميل ظاهره، فيقع في محذورٍ ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدًا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي -صلى الله عليه وسلم، أن يكشف له