كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 6)

................... أنت فصه
وعفوك نقش الفص فاختم به عذري
ومن ذلك إشفاقه -صلَّى الله عليه وسلم- على أهل الكبائر من أمته، وأمره إياهم بالستر، فقال: "من بلي بهذه القاذورات -يعني المحرمات- فليستتر".
وأمر أمته أن يستغفروا للمحدود ويترحَّموا عليه لما حنقوا عليه فسبوه ولعنوه، فقال: "قولوا: اللهم اغفر له، اللهمَّ ارحمه".
__________
خاتم "أنت فصه" المتميز عنه بزيادة الفضل والقرب، وكأنه أراد بالخاتم جميع الأنبياء، ففضلُهم وقربهم عند الله، لا يساويهم فيه غيرهم، وجعلهم خاتمًا؛ لأنَّ بواسطتهم تصان الملل عن الفساد؛ وتتزين بهم، فأشبهوا ما يطبع به على الكتاب، مثلًا: فيصان به ما في بطنه عن الفساد بالعلم به، وتزينت بهم الملل حيث أظهروا أحكامها ونشروها، فأشبهوا الحلي الذي يتزين به؛ "وعفوك نقش الفص" أي: كنقشه، لكونه زينة وشرفًا لأفعالك ومعاملتك مع الناس، كما أنَّ النقش زينة الخاتم، وهي ظهور آثاره، بحيث يقتدي بك فيها، كتأثير الفصل المنقوش، إذا طبع به أثرًا ظاهرًا ينتفع به، "فاختم به عذري" كأنه أظهر له عذرًا في تقصيره في حقه، وسأله قبوله منه، وجعل عفوه، كخاتم لا يتطرق للطبع، به خلل، "ومن ذلك إشفاقه -صلى الله عليه وسلم" مصدر أشفق، قال المجد: شفق وأشفق: حاذر، ولا يقال: ألا أشفق، أي: لا يستعمل إلا مزيدًا، وهجروا المجرد، وإن جاء في أصل اللغة مجردًا ومزيدًا، فلا يرد أن فيه إثباتًا ونفيًا، وهو تناقض "على أهل الكبائر من أمته؛ وأمره إياهم بالستر، فقال: "من بلي بهذه القاذورات" جمع قاذورة، وهي كل قول، أو فعل يستقبح، ولذا قال: "يعني المحرمات" سميت بذلك؛ لأن حقها أن تذر، فوصفت بما يوصف به صاحبها، "فليستتر" وجوبًا مع التوبة، ولا يخبر أحدًا، فإن خالف واعترف عند الحاكم؛ حدَّه، أو عزَّره، وهذا الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي في السنن عن ابن عمر، قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد رجم ماعز الأسلمي، فقال: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن أَلَمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صحتته نقم عليه كتاب الله"، صححه الحاكم وابن السكن، وقال الذهبي في المهذب: إسناده جيد، ولا ينافيه قوله في اختصارٍ له المستدرك: غريب جدًّا؛ لأن الغرابة تجامع الصحة، وقول إمام الحرمين: صحيح متفق على صحته، قال ابن الصلاح: عجيب أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث التي يفتقر إليها كل عالم، "وأمر أمته" أتباعه الحاضرين عنده، "أن يستغفروا للمحدود، ويترحموا عليه، لما حنقوا" -بفتح المهملة، وكسر النون، اغتاظوا "عليه، فسبوه" شتموه بذكر مساويه "ولعنوه" بأن دعوا عليه باللعن، ولعلهم لم يريدوا به الطرد عن رحمة الله، "فقال: "قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه".

الصفحة 39