كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 6)

في شريف تواضعه وآدابه وحسن عشرته مع أهله وخدمه وأصحابه.
قال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلّا عند لمعان نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتَلِينُ وتنطبع للحق والخلق بِمَحْوِ آثارها وسكون وهَجِهَا وغُبَارِها.
وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في أوطان القرب، وحسبك من تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أن خَيَّره ربه بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا،.......................................
__________
كذا أملاني شيخنا "في شريف تواضعه" أي: تواضعه الشريف، "وآدابه، وحسن عشرته" فهو من إضافة الصفة للموصوف؛ إذ حسنها "مع أهله، وخدمه، وأصحابه" ليس من أشرف تواضعه؛ إذ الحظ الأوفر من تواضعه في أوطان القرب، كما "قال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان" إضاءة النور، الحاصل بسبب "المشاهدة في قلبه" وإنما يحصل برياضة النفس ومجاهدتها في الإقبال على الله، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ "فعند ذلك تذوب النفس" تفني قواها عن ميلها إلى الشهوات المائلة إليها بالطَّبع، فتنهم بها وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات؛ فإذا جاهدها بمنعها من شهواتها، وتذكيرها ما آل ذلك من الذل والهوان، أهلكها؛ بحيث تغيرت طباعها، حتى كأنها ذابت فلم يبق لها أثر، "وفي ذوبانها" سيلانها، "صفاؤها" خلوصها، "من غش الكب والعجب" من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: غش النفوس الذي هو الكبر والعجب، فشبَّه النفس باعتبار ما طبعت عليه، أصالة من نحو كبر وحسد، بتبر اشتمل على أوساخ منعت نفعه؛ وجعل معالجة النفس في خلوصها مما ألفته من الميل إلى القبيح، كتصفية التبر مما يمنع نفعه، فحينئذٍ تطمئن بذكر الله؛ لترقيها في معرفة الأسباب والمسببات؛ وعملها بمقتضاها، وعرفت الحق، وأقبلت عليه بجملتها، فلم يبق لها تعلق بشيء من مألوفها، "فتلين وتنطبع للحق والخلق، بمحو آثارها" التي طبعت عليها من فخر وسرعة غضب وحرارة عند غليان دم القلب، إذا أصابها ما تكرهه، وغير ذلك من كل ما يشين؛ "وسكون وهجها" بالواو، والهاء المفتوحين اتقادها "وغبارها" عطف مغاير، وفي نسخة وهجها -بالراء المفتوحة، والهاء الساكنة، وتفتح الغبار، وعليها، فعطف الغبار تفسير، "وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في أوطان القرب" فكلما زاد قربًا زاد تواضعًا، "وحسبك" يكفيك "من تواضعه -عليه الصلاة والسلام، أن" مصدرية، أو مخففة، أي: إنه "خَيَّرَه ربه بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا" تواضعًا لربه، مع أنَّه لو كان نبيًّا ملكًا ما ضره،

الصفحة 41