كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 6)

فقال: "اللهم اجعله حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة".
وكان إذا صلَّى الغداة جاءه خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلَّا غمس يده فيه، فربما جاءه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها. رواه مسلم والترمذي.
وكان -عليه الصلاة والسلام- حسن العشرة مع أزواجه، وكان -عليه الصلاة والسلام- ينام مع أزواجه.
__________
سفر إلى الله، ألا ترى ما فيه من الإحرام؟ ومعناه: إحرام النفس من الملابس، تشبيهًا بالفارين إلى الله، والتذكير بالموقف الحقيقي، "فقال: "اللهم اجعله حجًّا" بفتح الحاء، وكسرها، "لا رياء فيه" لا عمل لغرض مذموم، كان يعمل ليراه الناس، "ولا سمعة" لا عمل ليسمع الناس، ويصير مشهورًا به، فيكرم، ويعظم جاهه في قلوبهم، فتضرع -صلى الله عليه وسلم- إلى الله، وسأله عدم الرياء والسمعة، مع كمال بعده عنهما، تخشعًا، وتذللًا، وعدًّا لنفسه كواحد من الآحاد من عظيم تواضعه؛ إذ لا يتطرق ذلك إلا لمن حجَّ على مراكب نفيسة، وملابس فاخرة، وأغشية محبرة، وأكوار مفضَّضة، هذا مع أنه -صلى الله عليه وسلم- أهدى في هذه الحجة مائة بدنة، وأهدى أصحابه ما لا يسمح به أحد، ومنهم عمر، أهدى فيما أهدى بعيرًا، أعطى فيه ثلثمائة دينار، فأبى قبولها، "وكان إذا صلَّى الغداة" أي: الصبح، "جاءه خدم" أهل "المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلّا غمس يده فيه" للتبرك بيده الشريفة، "فربما جاءه في الغداة الباردة، فينغمس يده فيها", ولا يمتنع لأجل البرد، من مزيد لطفه، وتواضعه، "رواه مسلم، والترمذي" وأحمد من حديث أنس، وفيه بروه للناس، وقربه منهم؛ ليصل كل ذي حق لحقه، وليعلم الجاهل ويقتدي بأفعاله، وكذا ينبغي للأئمة بعده، والحديث رواه أيضًا أبو نعيم في الدلائل، عن أبي أنس كان -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس لطفًا، والله ما كان يمتنع في غداة باردة, من عبد ولا أمة تأتيه بالماء، فيغسل وجهه وذراعيه، وما سائل قط إلّا أصغى إليه، فلا ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد يده قط إلا ناوله إياها، فلا ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه.
"وكان -عليه الصلاة والسلام- حسن العشرة مع أزواجه" جمع زوج، أي: امرأة؛ لأن اللغة الفصحة زوج، بلا هاء، وبها جاء القرءان في نحو {وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} حتى بالغ الأصمعي، فقال: لا تكاد العرب تقول زوجه بالهاء، وهذا تفصيل، لما قدمه إجمالًا، لأنه إذا كان حسن العشرة مع غيرهن، فمعهن أولى، "وكان -عليه الصلاة والسلام ينام مع أزواجه" في فراش واحد،

الصفحة 55