كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 6)
اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله، هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول: "ألم تهده لي" , فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يمزح..........
__________
اشترى منها" فليست هديته قاصرة على السمن والعسل، "ثم جاء، فقال: يا رسول الله هذا أهديته لك" أي: حملته لك، كما تحمل الهدية، فلا يرد كيف يطلب ثمنه بعد قوله ذلك، "فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به، فيقول: أعط هذا الثمن، فيقول" صلى الله عليه وسلم: "ألم تهده لي؟ " استفهام تقرير، "فيقول: ليس عندي" ما أهديه، وإنما أتيت به، أريد ثمنه لمالكه، "فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه" هكذا مشاه شيخنا، وهو خلاف الظاهر، ولذا قال بعض المحققين من شراح الشمايل: كان هذا الصحابي -رضي الله عنه، من كمال محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم، كلما رأى طرف أعجبته اشتراها، وآثره بها، وأهداها إليه على نية أداء ثمنها، إذا حصل لديه، فلما عجز صار، كالمكاتب، فرجع إلى مولاه، وأبدى إليه جميع ما أولاه، فالمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فرجع بالمطالبة إلى سيده، ففعله هذا جد حق ممزوج بمزاح صدق، انتهى.
وقع نحو ذلك للنعيمان بالتصغير، ابن عمرو بن رفاعة الأنصاري، ذكر الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة، والمزاج، كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب نعيمان بثمنه، أحضره إلى النبي، فيقول: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أولم تهده لي؟ "، فيقول: أنا والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه، "وكان -صلى الله عليه وسلم- يمزح" لأن الناس مأمورون بالتأسي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك الطلاقة والبشاشة ولزم العبوس؛ لأخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة، من المشقة والعناء، فمزح ليمزحوا، قاله ابن قتيبة، وقال الخطاب: سئل بعض السلف عن مزاحه -صلى الله عليه وسلم- فقال: كانت له مهابة، فلذا كان ينبسط للناس بالدعابة، قال: وأنشد ابن الأعرابي في نحو هذا يمدح رجلًا:
يتلقَّى الندى بوجه صبيح ... وصدور القنا بوجه وقاح
فبهذا وزاد تتم المعاني ... طرق الجد غير طرق المزاح
ولا يخالف هذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليست من دَدِ، ولا الدد مني" أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي عن أنس، والطبراني في الكبير عن معاوية، ودد -بفتح الدال الأولى، وكسر الثانية- أي: لست من أهل اللعب واللهو، ولا هما مني، وقد رواه الطبراني أيضًا، والبزار، وابن عساكر، عن أنس بزيادة: "ولست من الباطل، ولا الباطل مني"، لأن المنفي ما كان بباطل،