كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 6)
ولقد جاء إليه -صلى الله عليه وسلم- رجل فقام بين يديه, فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له: "هوّن عليك، فإني لست بملك ولا جبار, إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة"، فنطق الرجل بحاجته، فقام -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس, إني أوحي إلى أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد, ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد الله إخوانًا".
__________
"ولقد جاء إليه -صلى الله عليه وسلم- رجل" لحاجة يذكرها له لقوله الآتي، فنطق بحاجته، "فقام بين يديه، فأخذته رعدة شديدة" -بفتح الراء، وكسرها- كما في القاموس، واقتصر المصباح على الكسر، وهي اضطراب قوي، "ومهابة" أي: مخافة، عطف سبب على مسبب، والمهابة تكون بمعنى العظمة والخوف، وهو المراد هنا، "فقال له: "هوّن عليك" خَفِّف عن نفسك هذا الخوف، وأزله منك، ولا تجزع مني، "فإني لست بملك" أي: متصور بصورة الملوك، بل أنا عبد الله، "ولا جبار" أخبر الناس على ما أردته منهم؛ من فعل، أو ترك عطف لازم على ملزوم، "إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد" اللحم المقدد "بمكة"، فنطق الرجل بحاجته؛ فقام -صلى الله عليه وسلم- لما رأى تواضعه مع الرجل، سكن روعه، حتى تمكن من عرض حاجته عليه، أمرهم بالتواضع، وبين أنه بالوحي، فقال: "يا أيها الناس إني أوحي إلي" وحي، إرسال، لا إلهام، كما زعم، لأنه خلاف الأصل والظاهر، بلا دليل "أن تواضعوا" أي: تواضعكم أي: أمركم به، "ألا فتواضعوا" بخفض الجناح ولين الجانب، "حتى لا يبغي" لا يجوز، ولا يتعدى "أحد" منكم "على أحد" ولو ذميًّا، أو معاهدًا، أو مؤمنًا؛ وحتى هنا بمعنى كي، كما قال الطيبي: فهو علة للتواضع، فيكون طريقًا لترك البغي والعدي، "ولا يفخر" بمعجمة، لا يتعاظم، "أحد على أحد" بتعداد محاسنه كبرًا، ورفع قدره على الناس تيهأ وعجبًا.
قال ابن القيم: والتواضع انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة للخلق، حتى لا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا، بل، ويرى الحق لذلك الأحد؛ "وكونوا" يا "عباد الله" فهو منادى، يحذف الأداة والخبر "إخوانًا" لا عبادًا لله؛ إذ هم عباده، فالقصد كونهم إخوانًا، قال المجد بن تيمية: نهى الله على لسان رسوله عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهما البغي والفخر؛ لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر، أو بغير حق، فقد بغى، فلا يحل هذا ولا هذا، فإن كان إنسان من طائفة فاضلة، كبني هاشم، فلا يكن حظه استشعار فضل نفسه والنظر إليها، فإنه مخطئ؛ إذ فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، قرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش، ثم هذا النظر يوجب بغضه وخروجه عن الفضل؛ فضلًا عن استعلائه واستطالته بهذا.