كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 6)

وما خيِّر -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه. رواه البخاري.
أي بين أمرين من أمور الدنيا لا إثم فيهما، وأبهم "فاعل" خُيِّرَ ليكون أعمّ, من قِبَلِ الله أو من قِبَلِ المخلوقين. وقوله: إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما: أي ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم, فإنه حينئذ يختار.............
__________
لا يخفى أن من سب الصنعة، فقد سبَّ صانعها، فمن سب الليل والنهار، أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث؛ حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك.
وأما الحوادث، فمنها ما يجري بواسطة العاقل المكلَّف، فهذا يضاف شرعًا ولغة إلى الذي أجري على يديه، ويضاف إلى الله، لكونه بتقديره، فأفعال العباد من اكتسابهم، ولذا تترتَّب عليها الأحكام، وهي في الابتداء خلق الله، ومنها ما يجري بلا واسطة، فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير، لا لغة ولا عقلًا ولا شرعًا، وهو المعنى في هذا الحديث، ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل، ثم النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى الأدنى، فلا يسب شيء مطلقًا، إلا ما أذن الشرع فيه؛ لأن العلة واحدة، واستنبط منه أيضًا منع الحيلة في البيوع، مثل العينة؛ لأنه نهى عن سب الدهر، لما يئول إليه من حيث المعنى، وجعله سبًّا لخالقه. انتهى.
"وما خُيِّرَ -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلّا اختار" وفي رواة: إلا أخذ "أيسرهما" أسهلهما، "ما لم يكن إثمًا، فإن كان" الأيسر "إثما كان أبعد الناس منه".
"رواه البخاري" في الصفة النبوية والأدب، ومسلم في الفضائل، وأبو داود في الأدب، كلهم من حديث عائشة، وتمامه "وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه، إلّا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها". "أي بين أمرين من أمور الدنيا" يدل عليه قوله: ما لم يكن إثمًا؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها، هكذا شرحه الحافظ بإفراده ضمير فيها، فسقط من قلم المصنف بعض الكلام، فأتى بقوله: "لا إثم فيهما" مثنى عائدًا على الأمرين، فضاع قوله ما لم يكن إثمًا، فاللائق بقاء الأمرين على عمومهما، اللهمَّ إلّا أن يكون قيد بذلك، نظرًا لكونه -صلى الله عليه وسلم- لا يخيِّر بين حرامين، ولا حرام وغيره، "وأبهم" الشخص الراوي عائشة، "فاعل خير" بمعنى بناء للمجهول، "ليكون أعم" من أن يكون التخيير "من قِبَلِ الله تعالى، أو من قِبَلِ المخلوقين" أي جهتهم، "وقوله: إلّا اختار، أيسرهما" وقوله، أي: مع قوله: "ما لم يكن إثمًا، أي: ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم، فإنه

الصفحة 83