كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 6)
فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحوهما له حالتان: إحداهما حركته للهرب منه وهي حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه وهي الخشية.
وأما الرهبة: فهي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه.
__________
يتنزهون عن الشيء أصعنه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية"، قال الداودي: التنزه عمَّا رخص فيه من أعظم الذنوب، لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله، وهذا إلحاد، قال في فتح الباري: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، لكن في حديث أنس عند البخاري, جاء ثلاثة إلى أزواجه -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلمَّا أخبروا بها كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن منه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: أنتم الذين قلتم، كذا وكذا، "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له"، ولعبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيب: أن الثلاثة علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون.
قال الحافظ: ومرادهم أن بيننا وبينه بونًا بعيدًا، فأنا على حذر التفريط وسوء العاقبة، وهو معصوم، مأمون العاقبة، وأعمالنا جة من العقاب، وأعماله مجلبة للثواب، فردَّ -صلى الله عليه وسلم- ما اختاروا لأنفسهم بأن ما استأثرتم به من الإفراط في الرياضة، لو كان أحسن من العدل الذي أنا عليه، لكنت أنا أولى بذلك، ففيه الحث على الاقتداء به؛ والنهي عن التعمق، وذم التنزه عن المباح، شكا في إباحته، وأن العلم بالله يوجب اشتداد الخشية.
وقال الحافظ: في محل آخر فيه رد ما بنوا عليه أمرهم، من أنَّ المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة، بخلاف غيره، فأعلمهم أنَّه مع كونه لم يبالغ في التشديد، أخشى الله وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك؛ لأن المشدد لا يأمن من الملل، بخلاف المقتصد، فإنه أمكن لاستمراره، وخير العمل ما دوام عليه صاحبه، "فالخوف حركة" على أن الخوف اضطراب القلب؛ أما على بقية الأقوال السابقة، فلعل المراد أنه ينشأ عنه ما يرى في الخارج.
"والخشية: انجماع، وانقباض، وسكون" وأشار إلى الفرق بينهما بالمحسوس، "فإن الذي يرى العدو والسيل، ونحوهما له حالتان: إحداهما حركته للهرب منه، وهي حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره" ثباته، "في مكان لا يصل إليه، وهي الخشية، وأما الرهبة" بالفتح، اسم من رهب من باب تعب، "فهي الإمعان في العرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه" أي: طلبه له، فسمي الطلب سفرًا لمشابهته له في قطع