كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 6)

أَيْ وَأَخْشَى الذِّئْبَ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ" وَرُسُلٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ وَمِنْهُمْ رُسُلٌ. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَصَّ فِي كِتَابِهِ بَعْضَ أَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَسْمَاءَ بَعْضٍ، وَلِمَنْ ذَكَرَ فَضْلٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَذْكُرْ. قَالَتِ الْيَهُودُ: ذَكَرَ مُحَمَّدٌ الْأَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ مُوسَى، فَنَزَلَتْ" وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً"" تَكْلِيماً" مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ التَّأْكِيدُ، يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَنْ يَقُولُ: خَلَقَ لِنَفْسِهِ كَلَامًا فِي شَجَرَةٍ فَسَمِعَهُ مُوسَى، بَلْ هُوَ الْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مُتَكَلِّمًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّكَ إِذَا أَكَّدْتَ الْفِعْلَ بِالْمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي

أَنْ يَقُولَ: قَالَ قَوْلًا، فَكَذَا لَمَّا قَالَ:" تَكْلِيماً" وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُعْقَلُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ:" يَا رَبِّ بِمَ اتَّخَذْتَنِي كَلِيمًا"؟ طَلَبَ الْعَمَلَ الَّذِي أَسْعَدَهُ اللَّهُ بِهِ لِيُكْثِرَ مِنْهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: أَتَذْكُرُ إِذْ نَدَّ مِنْ غَنَمِكَ جَدْيٌ فَاتَّبَعْتَهُ أَكْثَرَ النَّهَارِ وَأَتْعَبَكَ، ثُمَّ أَخَذْتَهُ وَقَبَّلْتَهُ وَضَمَمْتَهُ إِلَى صَدْرِكَ وَقُلْتَ لَهُ: أَتْعَبْتَنِي وَأَتْعَبْتَ نَفْسَكَ، وَلَمْ تَغْضَبْ عَلَيْهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتَّخَذْتُكَ كليما.

[سورة النساء (4): آية 165]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ" وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا. (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فَيَقُولُوا مَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَمَا أَنْزَلْتَ عَلَيْنَا كِتَابًا، وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" «1» [الاسراء: 15]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ «2» آياتِكَ 20: 134" [طه: 134] وفي هذا كله دليل واضح على أنه لا يجب شي مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقْلِ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْأَنْبِيَاءُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ «3» ألف. وقال مقاتل: «4» كان الأنبياء
__________
(1). راجع ج 10 ص 230.
(2). راجع ج 11 ص 264.
(3). في ك: مائة.
(4). هذه الرواية نسبها (البحر) و (روح المعاني) إلى كعب الأحبار.

الصفحة 18