كتاب تفسير القاسمي = محاسن التأويل (اسم الجزء: 6)

والجمهور يسمون ذلك روحا وهذا جسما- لكن لفظ الجسم في اللغة ليس هو الجسم في اصطلاح المتكلمين. بل الجسم هو الجسد. وهو الجسم الغليظ، أو غلظه. والروح ليست مثل البدن في الغلظ والكثافة ولذلك لا تسمى جسما. فمن جعل الملائكة والأرواح جسما بالمعنى اللغويّ، فما أصاب في ذلك. وأما أهل الاصطلاح من المتكلمة والمتفلسفة، فيجعلون مسمى الجسم أعم من ذلك. وهو ما أمكنت الإشارة الحسية إليه. وما قيل إنه هنا وهناك وما قبل الأبعاد الثلاثة ونحو ذلك.
ثم قال عليه الرحمة: وما يقوله هؤلاء المتفلسفة في النفس الناطقة، من أنها لا يشار إليها ولا توصف بحركة ولا سكون ولا صعود ولا نزول، وليس داخل العالم ولا خارجه- هو كلام باطل عند جماهير العقلاء. ولا سيما من يقول منهم، كابن سينا وأمثاله: إنها لا تعرف شيئا من الأمور الجزئية. وإنما تعرف الأمور الكلية. فإن هذا مكابرة ظاهرة. فإنها تعرف بدنها وتعرف كل ما تراه بالبدن وتشمه وتسمعه وتذوقه وتقصده وتأمر به وتحبه وتكرهه، إلى غير ذلك مما تتصرف فيه بعلمها وعملها.
فكيف يقال: إنها لا تعرف الأمور المعينة وإنما تعرف أمورا كلية!؟ وكذلك قولهم:
إن تعلقها بالبدن ليس إلا مجرد تعلق التدبير والتصريف كتدبير الملك لمملكته- من أفسد الكلام. فإن الملك يدبر أمر مملكته، فيأمر وينهى. ولكن لا يصرفهم هو بمشيئته وقدرته، إن لم يتحركوا هم بإرادتهم وقدرتهم.
والملك لا يلتذ بلذة أحدهم ولا يتألم بتألمه، وليس كذلك الروح والبدن. بل قد جعل الله بينهما من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به. ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلا لدخول شيء من الأجسام المشهودة. فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية. فإن هذه إنما تلاقي السطح الداخل في الأوعية لا بطونها ولا ظهورها وإنما يلاقي الأوعية منها أطرافها دون أوساطها.
وليس كذلك الروح والبدن. بل الروح متعلقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره.
وكذلك دخولها فيها ليس كدخول الطعام والشراب في بدن الآكل. فإن ذلك له مجار معروفة، وهو مستحيل إلى غير ذلك من صفاته. ولا جريانها في البدن كجريان الدم.
فإن الدم يكون في بعض البدن دون بعض. ففي الجملة كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلقا بالآخر. بخلاف الروح والبدن. لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه. وتخرج منه وقت الموت. وتسلّ منه شيئا فشيئا. فتخرج من البدن شيئا فشيئا. لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبّرها. والناس لما لم يشهدوا

الصفحة 506