كتاب تفسير النيسابوري = غرائب القرآن ورغائب الفرقان (اسم الجزء: 6)
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي يجوز أن يقول مرة هذا ومرة ذلك، أو يكون قائل كل من الكلمتين بعد أخرى والمعنى لو أرشدني إلى دينه. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ النوع الثالث قوله عند رؤية العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال جار الله: لما حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب وهو الثاني، صح أن تقع «بلى» جوابا له مع أنه غير منفي، لأن قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي في معنى ما هديت. قلت: هذا يصلح جوابا للقولين الثاني والثالث أي بلى قد هديت بالوحي فكذبت واستكبرت عن قبوله فلا فائدة في الرجعة، فإن عدم القابلية وكونه واقعا في جانب القهر لن يزول عنه. ثم صرح ببعض أنواع العذاب قائلا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وقبوله وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ مفعول ثان إن كانت الرؤية القلبية وإلا فموضعه نصب على الحال.
والظاهر أن الكذب على الله هو المشار إليه في قوله فَكَذَّبْتَ بِها ويشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والوالد، ونسبته إلى العجز عن الإعادة، ونسبة القرآن إلى كونه مختلفا ونحو ذلك. وأما المسائل الاجتهادية التي يختلف فيها كل فريق إسلامي ولا سيما الفروعية، فالظاهر أنها لا تدخل فيها والله أعلم. وأما سواد الوجه فإن كان في الصورة فظاهر ويكون كسائر أوصاف أهل النار من زرقة العيون وغيره، وإن كان المراد به الخجل وشدّة الحياء ونحو ذلك فالله تعالى أعلم بمراده. ولا ريب أن الجهل والإخبار على خلاف ما عليه الأمر ونحو ذلك من الأخلاق الذميمة كلها ظلمات كما أن العلم والصدق ونحو هما أنوار كلها وفي ذلك العالم تظهر حقيقة كل شيء على المكلف هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: 30] .
ثم حكى حال المتقين يومئذ قائلا وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك أو المعاصي كبائر وصغائر بِمَفازَتِهِمْ هي «مفعلة» من الفوز. فمن وحد فلأنه مصدر، ومن جمع فلاختلاف أجناسها فلكل متق مفازة وهي الفلاح. ولا شك أن الباء هي التي في نحو قولك «كتبت بالقلم» . فقال جار الله: تارة تفسير المفازة هي قوله لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فلا محل للجملة لأنه كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي في أبدانهم. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يتألمون قلبا على ما فات. وقال: أخرى يجوز أن يراد بسبب فلاحهم أو منجاتهم وهو العمل الصالح، وذلك أن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها. وعلى هذه الوجوه يكون قوله لا يَمَسُّهُمُ منصوبا على الحال. وعن الماوردي أن المفازة هاهنا البرية أي بما سلكوا مفازة الطاعات الشاقة وهو غريب. وحين تمم الوعد والوعيد أتبعه شيئا من دلائل
الصفحة 12
616