كتاب الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي (اسم الجزء: 6)

أثر في نفوسهم، فأمرتهم بترك الربا على الإطلاق دون مواربة أو تعنّت، وجعلت ذلك شرطاً لصحة الإيمان ودليلاً عليه، وتوعّدت على الإصرار على التعامل بالربا بما لم تتوعّد به على فعل منكر من المنكرات. ثم أرشدت إلى التعامل الأمثل والسلوك الأفضل إلى تشييد صرح التعاون والحب والودّ في المجتمعات، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. َإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ. وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 278 - 280). قال الإمام ابن كثير في تفسيره
(يقول تعالى - آمراً عباده المؤمنين بتقواه، ناهياً لهم عمّا يقرّبهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه - فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون {وذَرُوا ما بقى من الربا} أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار {إن كنتم مؤمنينَ} أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك.
وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي: أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم رباً في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام. فكتب في ذلك عتّاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. َإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم.
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار. قال ابن جريج: قال ابن عباس: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله. وتقدم من رواية ربيعه بن كلثوم، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب: ثم قرأ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}.

الصفحة 84