كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 6)

وهذا هو المثل الأغرّ الذي لا تدانيه الأمثلة ولا تضارعه في سموه النهضات؛ هذه القرية التي كانت متمددة وراء الرمال، نائمة في ظلمات من الجهل والجدب فوق ظلمات، لا تدري بها المدن الكبار ولم يسمع بها التاريخ، فلما هزّها بيمينه سيد العبقريين وأعظم العظماء، ومن كان في الأرض سفير السماء وكان إمام الرسل وأفضل الأنبياء، محمد ‘، صارت «المدينة المنورة» التي غدت يوماً عاصمة الأرض.
هزّها فإذا هذه الرمال المحرقة التي لا تعيش فيها الحياة تُنبت السهولَ الخِصاب والرياض والجنّات في الشام والعراق، وإذا هذه القرية الضائعة تلد المدن العظام: الكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والقيروان، وإذا هذه القبائل المتفرقة تُخرِج الجيشَ الذي فتح الشرق والغرب وملك ثلث العالَم المتمدّن في ثلث قرن، وإذا هذه الأمّة الجاهلة تُنجِب الأساتذة الذين علّموا الدنيا وأرشدوا أهلها وأقاموا أعظم حضارة عرفها البشر: حضارة الخير والحقّ والجمال، لا حضارة القتل والتدمير والمصائب واليهود والبارود (والإيدز) والقنبلة الذرية!
إنه لا ينقصنا لنعزّ ونسود ونسير على سنن الجدود إلاّ حرب تنبّه أو زعيم عبقري يقود. إننا لا نريد إلاّ أن يتحمّس العرب أو أن يغضب العرب أو أن يخاف العرب، فتوقظهم الحماسة أو يثيرهم الغضب أو يحرّكهم الخوف، فيرجعوا إلى ما كان سببَ عزّهم وسيادتهم وسعادتهم وصدارتهم بين الأمم، وهو القرآن.
* * *

الصفحة 391