كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 6)

ولو كان يتسع الوقت أو كان يجوز لي الكلام لعرضتُ عليكم من وقائع الحوادث ما تمتلئون منه عجباً مما يجري في هذه الأيام، لا في أيام الحرب، ولكنني مع الأسف لا أستطيع. ومع ذلك سأغامر وأروي لكم حادثة واحدة رأيناها في القرى الأمامية: رأينا (أنا والشيخ الصواف وفريق من أعضاء مؤتمر القدس سنة 1953) رأينا عربياً محبوساً في مخفر عند ضابط إنكليزي، فسألناه ما شأنه؟ قال: إنه شوهد يجرّ بقرة عند الحدود، فسألوه من أين جاء بها، فتردّد وتلعثم، ثم تبيّن أنه جاء بها من الجزء الذي تحتلّه إسرائيل من فلسطين (ولا تنسوا أنني أتكلم في هذه المقالة عن فلسطين قبل ثلاثين سنة) فعجبوا منه وقال له الضابط الإنكليزي: هل تستطيع أن تأتي بغيرها؟ قال: نعم، وإن أعطيتني هذا المسدس جئت بالحارس اليهودي. فأعطاه المسدس، وغاب الرجل ساعات وحسبوه قد فرّ به، فإذا هو يطلع عليهم وأمامه بقرتان وأمامه الحارس اليهودي مكتوفاً.
(وأقول الآن: إذا شككتم في هذه الحادثة التي أرويها لكم -ولديّ من أمثالها كثير- فاسألوا الأستاذ الصواف عنها وعمّن كان حاضراً هذا الحديث من أعضاء المؤتمر الإسلامي، فإنني قد شخت وصرت أنسى الأسماء، والصواف لا ينسى اسماً أبداً. أعود إلى ما قلته في هذه المقالة، قلت فيها):
يجب أن تعرفوا وأن تؤمنوا أنه لم يغلبنا اليهود على فلسطين. ومتى كان اليهود يغلبون المسلمين؟ ولكن غلبتنا الدول القوية التي تحمي اليهود، الدول التي أكرهتنا على الهدنة ولم نكن نريدها. لم ننهزم نحن، وهل حاربنا حتى ننهزم؟ إنما انهزمَت فينا الأخلاق

الصفحة 394