كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 6)

يوماً على رأس جماعة الطلاب نأتمر بأمره ونمشي وراءه هو رئيس جمهوريتنا اليوم (أعني شكري بك القوّتلي رحمه الله).
فكيف كان هذا كله؟ كيف ذهبت فرنسا من هذه الديار وما كنا نظنّ أنها ستذهب؟ كيف جاءنا هذا الاستقلال؟
كلاّ، لم يكن هدية جادت بها علينا إنكلترا؛ ولكن نحن زرعناه في روابي ميسلون، وفي جنات الغوطة، وفي شعاب الجبل، وفي سهول حماة، وعلى ضفاف الفرات، وفي سفوح حلب، زرعناه بأيدينا وسقيناه بالماء الأحمر من دمائنا، وغذّيناه بمهج إخواننا وأبنائنا وأحبائنا وأجساد الآلاف من شهدائنا.
وإلاّ فهل تظنونه جاء سهلاً سائغاً بلا كدّ ولا تعب؟ فأين إذن ثوراتنا، وأين صَبْرُنا عن الكسب والعمل وإضرابنا ستين يوماً متتاليات (وكان ذلك سنة 1936 وقد سبق الكلام عنه) وأين تلك البطولات في مدن الشام كله؟ أنسيتم مقالتي «أطفال دمشق» التي تناقلَتها سنة 1936 أربع وعشرون جريدة، وتُرجمَت إلى الفرنسية والإنكليزية فعجب مما فيها الإنكليز والفرنسيون (¬1)، المقالة التي لم أُبدِع فيها ولم أسمُ إلى سماء الخيال لآتي بالصور الأدبية، ولكنْ وصفتُ مشهداً كان على الأرض من بطولة أطفال دمشق، مشهد الطفل الذي هجم بالمسطرة على الدبابة وتسلّقها وهي تُطلِق النار، المشهد الذي بلغ من روعته أن الوحش الفرنسي الذي كان في الدبابة -يسوقها ليقتل بها أهل البلد ويهدم بها دورهم على رؤوسهم- تأثّر به حتى اضطُرّ أن يذكر إنسانيته التي نسيها ويفتح
¬__________
(¬1) وهي في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).

الصفحة 396