كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 6)

جعلوه يُخطئ فهمنا ولا يعرف طبيعتنا؛ أوهموه أنه يستطيع أن يستميلنا ويُرضينا بشرعة الاشتراكية التي آمن بها (والإيمان بها يكاد يكون كفراً بإسلامنا) وأنه يقدر أن يستعين علينا بأولادنا وبناتنا إذ يزيّن لهم كشف العورات ويبيح اختلاط البنين والبنات. وقد عرفتم طرفاً من ذلك ممّا سبق من هذه الذكريات.
وآذانا في أموالنا، ذلك أن الشعب السوري شعب تجّار، من أيام الفنيقيين إلى هذه الأيام، يصنع الأفراد منه ما تعجز عن صنع مثله الشعوب والدول. والذي عمل بين يوم الجلاء ويوم الوحدة كان عجباً من العجب، ولو استمرّ ولم تأتِ عليه أيام الوحدة بالتأميم لصارت سوريا في الشرق الأدنى كاليابان في الشرق الأقصى: أُقيمت مصانع للغَزْل والنسيج يكفي ما ينتج عنها البلاد والبلدان التي حولها، بل يصمد للمنتجات الأخرى في بلادها. خذوا ابن الدبس مثلاً: جاء بالمال من خارج البلاد، فلم يستثمره خارجها بل عاد به إليها، وافتتح به مصنعاً كبيراً قَلّ أن يوجد مثله في أمثال بلادنا. وحضر افتتاحَه عبدُ الناصر نفسه وخطب فيه، ثم انتزعه من صاحبه باسم «التأميم»! وكان للشركة الخماسية في الشام وشركة الغَزْل والنسيج في حلب مصانع كبار تُنتِج الجيّد الكثير، فلما أصابتها محنة التأميم قلّ إنتاجها وتتالت خسائرها.
وكانت الأرض عند بحيرة «العتيبة» و «الهَيجانة» ما فيها نبتة خضراء، وتقول كتب الجغرافيا أن بردى يصبّ في هذه البحيرة ولكنه لا يبلغها في الواقع مرّة كل مئة سنة. فجاء الأَبْش فأحياها وجعلها بساتين متصلات وجنّات عامرات. استنبط من بطنها الماء وحرثها وبذَرَها وحصدها بالآلات الكبار، فأنتجت الكثير الطيّب

الصفحة 58