كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 6)

ونحن منفردون في بيوتنا، صار الصديق جاسوساً على صديقه والأخ جاسوساً على أخيه. كان ينتظرني على باب الدار كل صباح أيامَ الوحدة واحد منهم، صرت أعرفه وإنْ بدّل شخصه، فإذا نزلت من داري في الجبل تبعني، فإن ركبت الترام أو الحافلة ركب معي، فإذا وصلت إلى المحكمة انتظرني على بابها حتى أخرج منها. ويوم الجمعة يلحقني إلى المسجد.
فخرجت مرّة ضحى في يوم ضَاحٍ مُشمِس من أيام الشتاء فوجدت على الباب واحداً منهم، سميناً عليه دثار من الصوف سميك فوق دثار أسمك منه من الشحم، فمشيت مسرعاً ومشى ورائي. وأنا أسكن في حي اسمه حي المهاجرين على سفح جبل قاسيون، شوارعه متقطاعات، منها المعترض الذي يوازي الشارع الأكبر على السفح وشوارع مستطيلات تصعد في الجبل. وكنت أنزل من الشارع المستطيل الذي يصل بي إلى الجادّة الكبرى فأركب الترام أو السيارة، فمشيت في ذلك اليوم عَرْضاً وهو يمشي ورائي يراقبني ليرى مَن أكلّم وإلى أين أذهب، فلم أقف حتى صرت في آخر حي المهاجرين وأنا متوجّه شرقاً، ودخلت حيّ الصالحية (الذي كان أول من أنشأه آل قدامة، والد صاحب «المغني» وأبناؤه)، فمشيت فيه مشرّقاً حتى وصلت إلى آخره، فلم أنزل إلى الشارع العامّ وإنما مضيت قُدُماً فدخلت حيّ الأكراد (حيّ ركن الدين) إلى أن بلغت آخره حيث ينقطع العمران. وكان فيه موقف للحافلات فدخلت واحدة منها، وبقي واقفاً تحت وأنا أراه يكلّم زميلاً له لا أسمع صوته، ولكن أُدرِك مغزى حديثه من إشارة يده. رأيته وقف مع رفيق له يسائله: ما الذي جاء به إلى هذا

الصفحة 60