كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 6)

المكان؟ ورأيته كأنه يخبره كيف مشيت وهو يتبعني هذه المسافة كلها ويشكو إليه ما قاسى من التعب، وتترجم قسمات وجهه عمّا في نفسه من الغضب مني والنقمة عليّ، وأتخيل ما يخرج من فمه من ألفاظ السباب والشتائم. فلما هَمّت الحافلة بالمسير أسرع فدخل إليها وقعد فيها وهو يراقبني، حتى انتهى الطريق ونزلت في رأس سوق الحميدية وهو يتبعني، حتى بلغت دار الحديث الأشرفية وفيها مسجد صغير، وقد أذّن الظهر وصعد الخطيب المنبر، فدخلتُ. فلما رآني لم أذهب إلى مسجد كبير ولم أخطب فيه واطمأنّ إلى أنه لن يصدر مني ما يخشاه الحاكمون، انتهت مهمّته فعاد من باب المسجد ولم يصلِّ!
* * *
وكان صديقنا الشيخ محمد محمود الصوّاف قد نزل الشام لمّا لم يَعُد له في العراق على عهد عبد الكريم قاسم مكان، وأقام في فندق اسمه فندق اليرموك. فكنت كلما زرته وجدت عنده نادلاً (جرسون أو بوي كما يقولون) لا يتبدّل ولا يتغير، إن طلب شيئاً جاءه به وإن سأل عن شيء أجابه عنه، فلما كان الانفصال خبّرَنا مدير الفندق أن هذا الخادم ضابط مصري، جاؤوه به وفرضوه عليه ليشتغل عنده نادلاً، فيلازم الصوّاف ويراقبه ويُحصي عليه حركاته وسكناته.
وكنت أعقد في بيتي مجالس أسبوعية مع كثير من أساتذة الديانة في ثانويات دمشق، وكلّهم معروف، من أمثال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والأستاذ محمد القاسمي والدكتور

الصفحة 61