كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 6)

حملنا الصدر. وكنت في مَضايا، المَصِيف المشهور في الجبل، وجاء من يُخبِرنا بخبر الانفصال.
أُقسِم أني لم أرَ في عمري فرحة عامة كالتي رأيت ذلك اليوم؛ كان الناس كأنهم خرجوا من سجن، أو كما تقول العرب: قد أُطلِقوا من عقال. كان يهنّئ بعضُهم بعضاً، لم تكن ترى إلاّ باسماً مسروراً. ومن رأى ذلك اليوم فقد علم صدق ما أقول، ومن لم يرَه ربما حسب أني أتخيله أو أتزيّد أو أبالغ. ووالله الذي لا يحلف به كذباً إلاّ فاجر ما بالغت ولا تزيّدتُ، ولكن وصفت ما رأيت.
كان الناس يحفّون بالروادّ (الراديوات) الكبار ويعانقون منها الصغار، يستمعون منها البلاغات ويتتبّعون الأخبار. فلما جاء البلاغ رقم 9 وفيه خبر ينبئ عن بعض التراجُع من الضبّاط الذين قاموا بالانفصال علت الوجوهَ قَترة وملأت النفوسَ كآبة وحسرة، فلما توالت البلاغات بعده بأن الانفصال ماضٍ في طريقه عاد البِشْر إلى الوجوه.
لمّا انقضت الوحدة وخلا الجوّ للقائلين ذهب مَن شاء يدّعي كما شاء بأنه نقد أساليب الحكام أيام الوحدة وتكلّم عنها. وجلّ ذلك غير صحيح، والناس يعلمون مَن الذي جهر بذلك ولم يُخافِت به، وصرّح القول لم يُجَمجِم فيه ولم يتلعثم، وألقاه من فوق المنابر في دمشق وفي حلب (وسأحدّث القُرّاء عن رحلتي أيام الوحدة إلى حلب وما قلته في جامع السلطان في حماة). كان الناس وكان الضبّاط القائمون بهذه الحركة يعرفونه، لذلك بعثوا

الصفحة 63