كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 15)

"""""" صفحة رقم 60 """"""
وملك بعده ابنه مرقورة الملك ؛ فدخل عليه العظماء وهنوه ودعوا له بدوام الملك والنعمة ، وكان حازماً عاقلاً ، فأخذ في حسن التدبير وتقويم العمارة وترتيب المراتب ، وجعل لرأس الكهان الحكومة في أمر الدين . قال : وفي كتبهم أنه أول من ذل السباع بمصر وركبها . قال : وبنى المدن وعمر الهياكل وأقام الأصنام التي غربي منف ، وكان ملكه نيفاً وثلاثين سنة ، وعمل له ناووس على طريق الغرب على مسافة يويمن .
وقلد ابنه بلاطس بن مرقورة ، فملك وهو صبي ، وكانت أمه تدبر الملك مع الوزراء والكهنة ، وكانت حازمة مجربة ، فأجرت الأمور على ما كانت في حياة أبيه ، وأحسنت إلى الأولياء ، وعدلت في الرعية ، ووضعت عنهم بعض الخراج فأحبوها . وعملت في وقته البركة العظيمة في صحراء الغرب ، وجعل في وسطها عمود طوله ثلاثون ذراعاً في أعلاه قصعة من حجارة يفور منها الماء فهي لا تنقص أبداً ، وجعل حولها أصنام حجارة ملونة من كل صنف على صور الحيوان والوحش والطير ، وكان كل جنس يأتي إلى صورته ويألفها فيؤخذ ولا يدري . قال : ولما ترعرع الملك أحب الصيد ولهج له ، فعملت له أمه متنزهاً فيه مجالس مركبة على أساطين من المرمر مصفحة بالذهب ، عليها قباب مرصعة بالتصاوير العجيبة والنقوش المؤلفة ، يطلع من تحتها الماء في فوارات وتنصب إلى أنهار مصفحة بالفضة تفضي إلى حدائق فيها بدائع الغروس ، عليها تماثيل تصفر بأصناف اللغات ، ونضدت بأنواع الفواكه ، وأرخت عليها ستور الديباج المنسوجة بالذهب ، اختارت له من بنات الملوك الحسان وأزوجته منهن ، وبنت حول تلك الجنة مجالس يجلس فيها الوزراء والكهنة وأشراف أهل الصناعات يرفعون إليه ما يعملونه ، فكان أكثر مقام الملك في تلك الجنة ، فإذا فرغوا من أعمالهم نقل إليهم الطعام والشراب من مطبخه ، ولا يزالون في أكل وشرب بقية يومهم وليلتهم ، وأقاموا على ذلك والأمور جارية على السداد .
وكانت أيامه سعيدة كثيرة الخصب والسعة للناس والعدل فيهم والإحسان إليهم . وكان له يوم يخرج فيه إلى الصيد ويرجع إلى جنته فيأمر لمن معه بالجوائز والأطعمة والأشربة ، ويجلس يوماً للناس فينظر في أمورهم ومصالحهم ويقضي حوائجهم ،

الصفحة 60