كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 15)

"""""" صفحة رقم 72 """"""
المساء ، فظهرت لهم مدينة أخرى عظيمة أكبر من الأولى واعمر ، وأكثر أهلاً ودواب ومواشي وشجرا ونخلا ، فأنسوا بهم وأخبروهم بخبر المدينة ، فجعلوا يعجبون منهم ويضحكون ؛ وإذا لبعض أهل المدينة وليمة فانطلقوا بهم معهم ، فأكلوا وشربوا وغنوهم بأصناف الملاهي ، وسألوهم عن حالهم فحدثوهم أنهم ضلوا عن الطريق في هذه الصحارى ، فقالوا لهم : الطريق بين أيديكم واضح مستقيم لا يمكن أن تغلطوا فيه ، فإن أحببتم المسير وجهنا معكم من يوقفكم على سنن الطريق الكبير الذي يوصلكم إلى منازلكم ، وإن أحببتم أن تقيموا عندنا رفدناكم وكنتم إخواننا وأحبابنا . قالوا : فسررنا بذلك من قولهم ، واجمع بعضنا على المقام معهم ، وأجمع من كان له منا أهل وولد على أن يسير إلى منزله ويحمل أهله وولده ويعود إليهم . قال : وبتنا عندهم في خير مبيت ، فرحين بما ساق الله إلينا . فلما كان من الغد انتبهنا فوجدنا أنفسنا في مدينة عظيمة ليس فيها أحد من الناس وقد تشعب بعض حصنها ، إلا أن حولها نخلا قد تساقط ثمره وتكدس حوله ، فلحقنا من الخوف لذلك والارتياع ما استوحشنا له ، وخرجنا على وجوهنا هاربين مفكرين فيما عايناه من أهلها ، وإنا لنجد روائح الشراب منا ومعاني الخمار ظاهرة ، فلم نزل نسير يومنا أجمع وليس بنا جوع ولا عطش ، حتى إذا كان المساء رأينا راعياً يرعى غنماً فسألناه عن العمارة وعن الطريق فدلنا على الطريق وقال : إن العمارة حذاؤكم ؛ وإذا بنقار من ماء المطر فشربنا منه وبتنا عليها ، ثم أصبحنا فإذا نحن في خلاف موضعنا الذي كنا فيه ، وإذا آثار العمارة والناس فما سرنا إلا بعض يوم حتى دخلنا مدينة الأشمونين بالصعيد ، فكا نحدث الناس ولا يقبلون منا .
قال : وهذه مدائن القوم القديمة قد غلب عليها الجان ومنها ما قد سترته عن العيون فلا ينظر إليها أحد .

الصفحة 72