كتاب نيل الأوطار (اسم الجزء: 7)

أَبْوَابُ الدِّيَاتِ بَابُ دِيَةِ النَّفْسِ وَأَعْضَائِهَا وَمَنَافِعِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQمَكِّيَّةٌ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] الْآيَةُ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا.
وَكَذَلِكَ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا يَقُولُ: يَا رَبِّ قَتَلَنِي هَذَا حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنْ الْعَرْشِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟» لِأَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ وُقُوعُ الْمُنَازَعَةِ بَيْن يَدَيْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَخْذَ التَّائِبِ بِذَلِكَ الذَّنْبِ وَلَا تَخْلِيدَهُ فِي النَّارِ عَلَى فَرْضِ عَدَمِ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ النَّافِعَةُ هَهُنَا هِيَ الِاعْتِرَافُ بِالْقَتْلِ عِنْدَ الْوَارِثِ إنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ أَوْ السُّلْطَانُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَالنَّدَمُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إلَى مِثْلِهِ، لَا مُجَرَّدُ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ بِدُونِ اعْتِرَافٍ وَتَسْلِيمٍ لِلنَّفْسِ أَوْ الدِّيَةِ إنْ اخْتَارَهَا مُسْتَحِقُّهَا، لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ وَهُوَ تَسْلِيمُهُ أَوْ تَسْلِيمُ عِوَضِهِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهِ.
فَإِنْ قُلْت: فَعَلَامَ تَحْمِلُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثَ مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْضِي بِأَنَّ الْقَاتِلَ أَوْ الْمُعِينَ عَلَى الْقَتْلِ يَلْقَى اللَّهَ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ الْإِيَاسُ مِنْ الرَّحْمَةِ، وَالثَّانِي يَقْضِي بِأَنَّ ذَنْبَ الْقَتْلِ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ. قُلْت: هُمَا مَحْمُولَانِ عَلَى عَدَمِ صُدُورِ التَّوْبَةِ مِنْ الْقَاتِلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا فِي الْبَابِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِالْقَبُولِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا حَدِيثُ الرَّجُلِ الْقَاتِلِ لِلْمِائَةِ الَّذِي تَنَازَعَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ فَإِنَّهُمَا يُلْجِئَانِ إلَى الْمَصِيرِ إلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَأَخُّرِ تَارِيخِ حَدِيثِ عُبَادَةَ، مَعَ كَوْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمُعَاوِيَةَ. وَأَيْضًا فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ نَفْسِهِ مَا يُرْشِدُ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَإِنَّهُ جَعَلَ الرَّجُلَ الْقَاتِلَ عَمْدًا مُقْتَرِنًا بِالرَّجُلِ الَّذِي يَمُوتُ كَافِرًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَمُوتُ كَافِرًا مُصِرًّا عَلَى ذَنْبِهِ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهُ مِنْ الْمُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا التَّقْيِيدِ أَنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو ذَنْبَ الْكُفْرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْقَرِينُ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ أَوْلَى بِقَبُولِهَا. وَقَدْ قَالَ الْعَلَّامَةُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْكَشَّافِ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْنِي قَوْلَهُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} [النساء: 93] فِيهَا مِنْ التَّهْدِيدِ وَالْإِيعَادِ وَالْإِبْرَاقِ وَالْإِرْعَادِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَخَطْبٌ غَلِيظٌ. قَالَ: وَمِنْ ثَمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ تَوْبَةَ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.
وَعَنْ سُفْيَانَ: كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ إذَا سُئِلُوا قَالُوا: لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِسُنَّةِ اللَّه فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَإِلَّا فَكُلُّ ذَنْبٍ مَمْحُوٌّ بِالتَّوْبَةِ، وَنَاهِيكَ بِمَحْوِ الشِّرْكِ دَلِيلًا، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَعِنْدَ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْن عُمَر. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ.
، وَأَمَّا حَدِيثُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي «الرَّجُلِ الَّذِي أَوْجَبَ

الصفحة 69