كتاب نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (اسم الجزء: 7)

قلت: الحديث رواه ابن حبان في "صحيحه" والنسائي في "سننه" وقال: البيهقي ورواه جماعة من الأئمة عن عاصم بن أبي النجود، وتداوله الفقهاء إلا أن صاحبي الصحيح يتوقيان روايته لسوء حفظه، فأخرجا من طريق آخر ببعض معناه. وقال أبو عمر: وقد روي حديث ابن مسعود بما يوافق حديث زيد بن أرقم كما ذكرناه، وهذا القدر كاف في صحة الاستدلال، ثم إن حديث عاصم ليس فيه فلما رجعنا من أرض الحبشة إلى مكة بل يحتمل أن يريد فلما رجعنا من أرض الحبشة إلى المدينة ليتفق حديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم، وقد ذكر ابن الجوزي أن ابن مسعود لما عاد من الحبشة إلى مكة رجع في الهجرة الثانية إلى النجاشي، ثم قدم على رسول الله - عليه السلام - بالمدينة وهو يتجهز لبدر، وذكر البيهقي فيما بعد في هذا الباب من كلام الحميدي: أن إتيان ابن مسعود - رضي الله عنه - من الحبشة كان قبل بدر، وظاهر هذا يؤيد ما قلنا، وكذا قول صاحب "الكمال" وغيره: هاجر ابن مسعود إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة. ولهذا قال الخطابي: إنما نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة.
وهذا يدل على اتفاق حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم على أن التحريم كان بالمدينة كما تقدم من كلام صاحب "التمهيد".
وقد أخرج النسائي في "سننه" (¬1): من حديث ابن مسعود قال: "كنت آتي النبي - عليه السلام - وهو يصلي فأسلم عليه، فيرد علي، فأتيته فسلمت عليه فلم يرد علي، فلما سلم أشار إلى القوم، فقال: "إن الله -عز وجل- حدث في الصلاة أن لا تكلموا إلا بذكر الله، وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين". فظاهر قوله: "وأن تقوموا لله قانتين" يدل على أن ذلك كان بالمدينة بعد نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬2) موافقًا لحديث زيد بن أرقم، فظهر بهذا كله أن قصة التسليم كانت بعد الهجرة بخلاف ما ذكره البيهقي، ثم إنه استدل على ما ذكره بحديث أخرجه عن ابن مسعود قال: "بعثنا
¬__________
(¬1) "المجتبى" (3/ 18 رقم 1220).
(¬2) سورة البقرة، آية: [238].

الصفحة 57