كتاب مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

قَالَ: وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَابِ قَطَعَ عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ الْخَنْدَقَ، فقِيلَ لَهُ: انْصَرِفْ، قَالَ: لاَ أَنْصَرِفُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، فخَرَجَ إِلَيْهِ علِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا عَمْرُو، إِنِّي سَمِعْتُكَ تَقُولُ عِنْدَ الْكعبةِ: لاَ يُنْصِفُنِي أَحَدٌ إِلاَّ قَتَلْتُ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فأَبَى عَلَيْهِ, قَالَ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ أَنْ تَنْزِلَ فَتُبَارِزَنِي. قَالَ: أَنْصَفْتَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ عَمْرُو قَبْلَ ذَلِكَ:
وَلَقَدْ بَحِحْتُ مِنْ النِّدَاءِ ... بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَوَقَفْتُ إِذْ جَبُنَ الشُّجَاعُ ... لمَوْقِفِ الْبَطَلِ الْمُنَاجِزْ
وَكَذَاكَ أَنِّي لَمْ أَزَلْ ... مُتَسَرِّعًا نَحْوَ الْهَزَاهِزْ
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى ... وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَأَجَابَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لاَ تَعْجَلَنَّ فَقَدْ أَتَاكَ ... مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرُ عَاجِزْ
ذُو نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ ... وَالصِّدْقُ مَنْجَى كُلِّ فَائِزْ
إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أُقِيمَ ... عَلَيْكَ نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ فَوْهَاءَ يَبْقَى ... أَثَرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
وَلَقَدْ دَعَوْتُ إِلَى الْبِرَازِ ... فَمَا تُجِيبُ إِلَى الْمُبَارِزْ
فَنَزَلَ فَعَقَرَ فَرَسَهُ، وَرَكَّزَ عَنَزَتَهُ، وَكَانَ أَعْرَجَ، وَمَشَى إِلَيْهِ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ، وَهَاجَتْ عَجَاجَةٌ فَحَالَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّاسِ، ورَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ يَدْعُو فَانْفَرَجَتْ وَعَلِيٌّ يَمْسَحُ سَيْفَهُ بِثِيَابِهِ، وَرَجَعَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ يَقُولُ:
أَعَلَيَّ، تَقْتَحِمُ الْفَوَارِسُ هَكَذَا ... عَنِّي وَعَنْهُمْ أَخِّرُوا أَصْحَابِي
الْيَوْمَ يَمْنَعُنِي الْفِرَارُ حَفِيظَتِي ... وَمُصَمِّمٌ فِي الرَّأْسِ لَيْسَ بِنَابِي
أَدَّى عُمَيْرٌ حِينَ أَخْلَصَ صُنْعَهُ ... صَافِي الْحَدِيدَةِ يَسْتَنِضُّ ثَوَابِي
فَغَدَوْتُ أَلْتَمِسُ الْقِرَاعَ بِمُرْهِفٍ ... عَضْبٍ مَعَ الْبَتْرَاءِ فِي الأَقْرَابِ
آلَى ابْنُ عَبْدٍ حِينَ شَدَّ أَلِيَّةً ... وَحَلَفْتُ فَاسْتَمِعُوا مِنَ الْكذَّابِ
أَلاَ يَصُدَّ وَلاَ يُهَلِّلَ فَالْتَقَى ... فَتَيَانِ يَضْطَرِبَانِ كُلَّ ضِرَابِ
فَصَدَدْتُ حِينَ تَرَكْتُهُ مُتَجَدِّلاَ ... كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكٍ وَرَوَابِي
وَعَفَفْتُ عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنَّنِي ... كُنْتُ الْمُقَطَّرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي
وَزَادَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ يُونُسَ بْنَ بُكَيْرٍ:
عَبَدَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ وَعَبَدْتُ رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوابِ.

الصفحة 118