كتاب مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

430 - قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْعِجْلِيُّ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي ظِئْرٌ، كَانَ لَنَا قَالَ: قَدِمْتُ بِأَبَاعِرَ لِي عِشْرِينَ أَوْ ثَلاَثِينَ بَعِيرًا ذَا الْمُرُوَّةِ، أُرِيدُ الْمِيرَةَ مِنَ التَّمْرِ، فَقِيلَ لِي: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ فِي مَالِهِ، وَالْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهً عَنْهُمَا فِي مَالِهِ، قَالَ: فَجِئْتُ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ فَأَمَرَ لِي بِبَعِيرَيْنِ، أَنْ يُحْمَلَ لِي عَلَيْهِمَا، فَقَالَ لِي قَائِلٌ: وَيْلَكَ ائْتِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَجِئْتُهُ وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ بِالأَرْضِ حَوْلَهُ عَبِيدُهُ، بَيْنَ يَدَيْهِ جَفْنَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا خُبْزٌ غَلِيظٌ وَلَحْمٌ، فَهُوَ يَأْكُلُ وَهُمْ يَأْكُلُونَ مَعَهُ، فَسَلَّمْتُ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ، مَا أَرَى أَنْ يُعْطِيَنِي هَذَا شَيْئًا. فَقَالَ: هَلُمَّ فَكُلْ، فَأَكَلْتُ مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى رَبِيعِ الْمَاءِ - مَجْرَاهُ - فَجَعَلَ يَشْرَبُ بِيَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَهُمَا، وَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقُلْتُ: أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، قَدِمْتُ بِأَبَاعِرَ لِي أُرِيدُ الْمِيرَةَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَذُكِرْتَ لِي فَأَتَيْتُكَ لِتُعْطِيَنِي مِمَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ، قَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِأَبَاعِرِكَ، فَجِئْتُ بِهَا، فَقَالَ: دُونَكَ هَذَا الْمِرْبَدُ فَأَوْقِرْهَا مِنْ هَذَا التَّمْرِ، فَأَوْقَرْتُهَا وَاللَّهُ مَا حَمَلَتْ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، هَذَا وَاللَّهِ الْكَرَمُ.
431 - أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُفْيَانَ، مَوْلًى لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ خُطَبَاءُ أَهْلِ الْحِجَازِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا. قَالَ: فَحَضَرْتُ كَلاَمَهُمْ رَجُلاَ رَجُلاَ، حَتَّى قَامَ ابْنُ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ أَعْظَمَ الْقَوْمِ قَدْرًا، وَأَكْبَرَهُمْ سِنًّا، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ خُطَبَاءَ قُرَيْشٍ قَدْ قَالَتْ فِيكَ فَاحْتَفَلَتْ، وَأَثْنَتْ فَأَطْنَبَتْ، فَوَاللَّهِ مَا بَلَغَ قَائِلُهُمْ قَدْرَكَ، وَلاَ أَحْصَى مُطْنِبُهُمْ فَضْلَكَ، أَفَأُطِيلُ أَمْ أُوجِزُ؟ قَالَ: بَلْ أَوْجِزْ قَالَ: تَوَلاَكَ اللَّهُ بِالْحُسْنَى، وَزَيَّنَكَ بِالتَّقْوَى، وَجَمَعَ لَكَ خَيْرَ الآخِرَةِ وَالأُولَى، إِنَّ لِي حَوَائِجَ أَفَأَذْكُرُهَا؟ قَالَ: اذْكُرْهَا. قَالَ: كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَنَالَ الدَّهْرُ مِنِّي، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْبُرَ كَسْرِي، وَأَنْ يَنْفِيَ فَقْرِي فَعَلَ.
قَالَ: وَمَا الَّذِي يَجْبُرُ كَسْرَكَ، وَيَنْفِي فَقْرَكَ، قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَأَلْفُ دِينَارٍ، وَأَلْفُ دِينَارٍ. قَالَ: هَيْهَاتَ يَا ابنَ أَبِي جَهْمٍ رُمْتَ مَرَامًا صَعْبًا. بَيْتُ الْمَالِ لاَ يَحْتَمِلُ مَا سَأَلْتَ. ثُمَّ أَطْرَقَ هِشَامٌ طَوِيلاً، ثُمَّ قَالَ: هِيهَ. قَالَ: مَا هِيهَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ آلَيْتَ لاَ تَقْضِي لِي حَاجَةً فِي مَوْقِفِي هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الأَمْرَ لِوَاحِدٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ آثَرَكَ بِمَجْلِسِكَ هَذَا، فَإِنْ تُعْطِ فَحَقًّا أَدَّيْتَ، وَإِنْ تَمْنَعْ فَإِنِّي أَسْأَلُ الَّذِي بِيَدِهِ مَا حَوَيْتَ. إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْعَطَاءَ مَحَبَّةً، وَالْمَنْعَ مَبْغَضَةً، وَاللَّهِ لأَنْ أُحِبَّكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْغِضَكَ. قَالَ: وَأَلْفُ دِينَارٍ لِمَاذَا؟ قَالَ: أَقْضِي بِهَا دَيْنًا قَدْ أَحَمَّ قَضَاؤُهُ، وَقَدْ فَدَحَنِي حِمْلُهُ، وَأَضَرَّ بِي أَهْلُهُ. قَالَ هِشَامٌ: فَلاَ بَأْسَ تُنَفِّسُ كُرْبَةً مَعَ أَدَاءِ أَمَانَةٍ. وَأَلْفُ دِينَارٍ لِمَاذَا؟ قَالَ: أَزَوِّجُ بِهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِي. قَالَ: نِعْمَ الْمَسْلَكُ سَلَكْتَ، أَغْضَضْتَ بَصَرًا، وَأَعْفَفْتَ فَرْجًا، وَرَجَوْتَ نَسْلاَ. وَأَلْفَ دِينَارٍ لِمَاذَا؟ قَالَ: أَشْتَرِي بِهَا أَرْضًا يَعِيشُ فِيهَا وَلَدِي، وَتَكُونُ أَصْلاً لِمَنْ بَعْدِي. قَالَ: فَإِنَّا قَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِمَا سَأَلْتَ. قَالَ: فَالْمَحْمُودُ عَلَى ذَلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ فَأَتْبَعَهُ هِشَامٌ بَصَرَهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الْقُرَشِيُّ فَلْيَكُنْ مِثْلَ هَذَا. مَا رأيتُ رَجُلاً أَبْلَغَ وَأَوْجَزَ فِي مَقَالِهِ، وَلاَ أَبْلَغَ فِي ثَنَاءٍ مِنْهُ. أَمَا وَاللَّهِ إِنَّا لَنَعْرِفُ الْحَقَّ إِذَا نَزَلَ، وَنَكْرَهُ الإِسْرَافَ وَالْبُخْلَ، فَمَا نُعْطِي تَبْذِيرًا، وَلاَ نَمْنَعُ تَقَتُّرًا، وَمَا نَحْنُ إِلاَّ خُزَّانُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي بِلاَدِهِ، وَأُمَنَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَإِذَا شَاءَ أَعْطَيْنَا، وَإِذَا مَنَعَ أَبَيْنَا، وَلَوْ أَنَّ كُلَّ قَائِلٍ يَصْدُقُ، وَكُلَّ سَائِلٍ يَسْتَحِقُّ، مَا جَبَهْنَا قَائِلاً، وَلاَ رَدَدْنَا سَائِلاً، فَسَلُوا الَّذِي بِيَدِهِ مَا اسْتُحْفِظْنَا أَنْ نُجْرِيَهُ لَكُمْ عَلَى أَيدِينَا، فَإِنَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ. قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ أَبْلَغْتَ، وَمَا بَلَغَ فِي قَدْرِ عُجْبِكَ بِهِ مَا كَانَ مِنْكَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ. قَالَ: إِنَّهُ الْمُبْتَدِي وَلَيْسَ الْمُبْتَدِي كَالْمُقْتَدِي.

الصفحة 183