كتاب مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

467 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى الْعُكْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْخُزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ مَسْعُودٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي ذَكْوَانَ، نَزَلَ الطَّائِفَ وَكَانَ صَدِيقًا لأَبِي سُفْيَانَ وَأَخًا، وَكَانَ لَهُ مَالٌ وَوَلَدٌ، فَذَهَبَ مَالُهُ، وَدَرَجَ وَلَدُهُ، وَأَتَى لِلشَّيْخِ عُمْرٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُخْلِفَ مُعَاوِيَةُ أَتَاهُ بِالْخُلَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَامَ بِبَابِهِ سَنَةً وَبَعْضَ أُخْرَى لاَ يَصِلُ إِلَيْهِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَهَرَ يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي رُقْعَةٍ:
يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُبْدِي بِنَا ضَجَرَا ... لَوْ كَانَ صَخْرٌ بِعُرْضِ الأَرْضِ مَا ضَجِرَا
مَا بَالُ شَيْخِكَ مَخْنُوقًا بِجِرَّتِهِ ... طَالَ الطِّيَالُ بِهِ دَهْرًا وَقَدْ ضَجِرَا
وَمَرَّ حَوْلٌ وَنِصْفٌ مَا يَرَى طَمَعًا ... يُدْنِيهِ مِنْكَ وَهَذَا الْمَوْتُ قَدْ حَضَرَا
قَدْ جَاءَ تَرْعَشُ كَفَّاهُ بِمِحْجَنِه ... لَمْ يَتْرُكِ الدَّهْرُ مِنْ أَوْلاَدِهِ ذَكَرَا
قَدْ قَسَرَتْهُ أَمُورٌ فَاقْسَأَنَّ لهَا ... وَقَدْ حَنَى ظَهْرَهُ دَهْرٌ وَقَدْ كَبِرَا
نَادَى وَكَلْكَلُ هَذَا الدَّهْرِ يَعْرُكُهُ ... قَدْ كُنْتُ بَابنِ أَبِي سُفْيَانَ مُعْتَصِرَا
فَاذْكُرْ أَبَاكَ أَبَا سُفْيَانَ إِنَّ لَنَا ... حَقًّا عَلَيْهِ وَقَدْ ضَيَّعْتَنَا عُصُرَا
فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ دَعَا بِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ وَكَيْفَ عِيَالُكَ وَحَالُكَ؟ فَقَالَ: مَا يَسْأَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّنْ ذَبُلَتْ بَشْرَتُهُ، وَقُطِعَتْ ثَمَرَتُهُ، فَابْيَضَّ الشَّعْرُ، وَانْحَنَى الظَّهْرُ، فَقَدْ كَثُرَ مِنِّي مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَقِلَّ، وَصَعُبَ مِنِّي مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَذِلَّ، فَأَجِمْتُ النِّسَاءَ وَكُنَّ الشِّفَاءَ، وَكَرِهْتُ الْمَطْعَمَ وَكَانَ الْمَنْعَمَ، وَقَصُرَ خَطْوِي، وَكَثُرَ سَهْوِي، فَسُحِلَتْ مَرِيرَتِي بِالنَّقْضٍ، وَثَقُلْتُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَقَرُبَ بَعْضِي مِنْ بَعْضٍ، فَنَحُفَ وَضَعُفَ، وَذَلَّ وَكَلَّ، فَقَلَّ انْحِيَاشُهُ، وَكَثُرَ ارْتِعَاشُهُ، وَقُلِيَ مَعَاشُهُ، فَنَوْمُهُ سُبَاتٌ، وَفَهْمُهُ تَارَاتٌ، وَلَيْلُهُ هُفَاتٌ، كَمِثْلِ قَوْلِ عَمِّكَ:
أَصْبَحْتُ شَيْخًا كَبِيرًا هَامَةً لِغَدِ ... تَزْقُو لَدَى جَدَثِي أَوْ لاَ فَبَعْدَ غَدِ
أَرْدَى الزَّمَانُ حَلُوبَاتِي وَمَا جَمَعَتْ ... كَفَّايَّ مِنْ سَبَدِ الأَمْوَالِ وَاللَّبَدِ
حَتَّى إِذَا صِرْتُ مِنْ مَالِي وَمِنْ وَلَدِي ... مِثْلَ الْخَلِيَّةِ سُبْرُوتًا بِلاَ عَدَدِ
أَرْسَى يَكُدُّ صَفَاتِي حَدُّ مِعْوَلِه ... يَا دَهْرُ قَدْنِيَ مِمَّا تَبْتَغِيهِ قَدِي
وَاللَّهِ لَوْ كَانَ يَا خَيْرَ الْخَلاَئِفِ ... مَا قَاسَيْتُ فِي أُحُدٍ دَكَّتْ ذُرَا أُحُدِ
أَوْ كَانَ بِالْفَرَدِ الْحَوْلِيِّ لاَنْصَدَعَتْ ... مِنْ دُونِهِ كَبِدُ الْمُسْتَعِصِمِ الْوَحَدِ
لَمَّا رَأَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ تَقَلُّبَ ... الدَّهْرِ مِنْ جَمْعٍ إِلَى بَدَدِ
وَأَبْصَرَ الشَّيْخُ فِي حَيْزُومِهِ نَقَعَتْ ... مِنْهُ الْحُشَاشَةُ بَيْنَ الصَّدْرِ وَالْكَبِدِ
رَامَ الرَّحِيلَ وَفِي كَفَّيْهِ مِحْجَنُهُ ... يُؤَامِرُ النَّفْسَ فِي ظَعْنٍ وَفِي قَعَدِ
إِمَّا جَوَارٍ إِذَا مَا غَابَ ضَيَّعَهَا ... أَوِ الْمُقَامُ بِدَارِ الْهُونِ وَالْفَنَدِ
فَأَسْمَحَتْ نَفْسُهُ بِالسَّيْرِ مُعْتَزِمَا ... وَلَوْ تَجَرْثَمَ فِي نَامُوسِهِ الأَسَدِ
فَقَلْبُهُ فَرِقٌ وَمَأْقُهُ شَرِقٌ ... وَدَمْعُهُ غَسِقٌ مِنْ شِدَّةِ الْكَمَدِ
لِنِسْوَةٍ عُرُبٍ أَوْلاَدُهَا سُغُبٌ ... كَأَفْرُخٍ زُغُبٍ حَلُّوا عَلَى ضَمَدِ
رَامَ الرَّحِيلَ فَدَارُوا حَوْلَ شَيْخِهِمُ ... يَسْتَرْجِعُونَ لَهُ إِنْ خَاضَ فِي الْبَلَدِ
يَنْعَى أُصَيْبِيَةٌ فِقْدَانَ وَالِدِهِمْ ... وَوَالِهًا وَضَعَتْ كَفًّا عَلَى كَبِدِ
قَالُوا: أَبَانَا إِذَا مَا غِبْتَ كَيْفَ لَنَا ... بِمِثْلِ وَالِدِنَا فِي الْقُرْبِ وَالْبُعُدِ
قَدْ كُنْتَ تُرْضِعُنَا إِنْ دَرَّةٌ بَكُؤَتْ ... عَنَّا وَتَكْلَؤُنَا بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ
فَغَرْغَرَ الشَّيْخُ فِي عَيْنَيْهِ عَبْرَتَهُ ... أَنْفَاسُهُ مِنْ شَجِيِّ الْوَجْدِ فِي صَعَدِ
وَقَالَ يُودِعُ صِبْيَانًا وَنِسْوَتَهُ ... أُوصِيكُمُ بِاتِّقَاءِ اللهِ يَا وَلَدِي
فَإِنْ أَعِشْ فَإِيَابٌ مِنْ حَلُوبَتِكُمْ ... أَوْ مِتُّ فَاعْتَصِمُوا بِالْوَاحِدِ الصَّمَدِ
فَبَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا، وَأَمَرَ لَهُ بِمِئَةِ أَلْفٍ وَكُسًى وَعُرُوضٍ وَحَمَلَهُ، فَوَافَى الطَّائِفَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ دِمَشْقَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَرْبَعَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ هَذَا الشِّعْرِ أَنْشَدَنِيهَا أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ.

الصفحة 201