كتاب الوجل والتوثق بالعمل لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

وَالْعَالِمِ، كَيْفَ اسْتَوَيَا فِي هَلاكِ أَنْفُسِهِمَا؟ أَلا إِنَّ الَّذِي يَسْرِقُ وَلا يَعْرِفُ عُقُوبَةَ السَّارِقِ أَعْذَرُ مِنَ السَّارِقِ الْعَارِفِ بِعُقُوبَتِهِ، وَيَا عَجَبًا لِلْحَازِمِ كَيْفَ لاَ يَبْذُلُ مَالَهُ دُونَ نَفْسِهِ فَيَنْجُوَ بِهَا، فَإِنِّي أَرَى هَذَا الْعَالَمَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ دُونَ أَمْوَالِهِمْ، كَأَنَّهُمْ لاَ يُصَدِّقُونَ بِمَا يَأْتِيهِمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، قَالُوا: مَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ يُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الأَنْبِيَاءُ قَالَ: مِنْ ذَلِكَ اشْتَدَّ عَجَبِي مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى التَّصْدِيقِ وَمُخَالَفَتِهِمْ فِي الْفِعْلِ، كَأَنَّهُمْ يَرْجُونَ الثَّوَابَ بِغَيْرِ أَعْمَالٍ قَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ أَوَّلُ مَعْرِفَتِكَ لِلأُمُورِ مِنْ قِبَلِ الْفِكْرِ؟ قَالَ: تَفَكَّرْتُ فِي هَلاَكِ الْعَالَمِ فَإِذَا ذَاكَ مِنْ قِبَلِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ جُعِلَتْ فِيهِنَّ اللَّذَّاتُ، وَهِيَ أَبْوَابٌ مُرَكَّبَةٌ فِي الْجَسَدِ، مِنْهَا ثَلاثَةٌ فِي الرَّأْسِ، وَوَاحِدٌ فِي الْبَطْنِ، فَأَمَّا أَبْوَابُ الرَّأْسِ فَالْعَيْنَانِ، وَالْمِنْخَرَانِ، وَالْحَنَكُ، وَأَمَّا بَابُ الْبَطْنِ فَالْفَرْجُ، فَالْتَمَسْتُ خِفَّةَ الْمَئُونَةِ عَلَيَّ فِي هَذِهِ الأَبْوَابِ الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا دَخَلَ الْبَلاءُ عَلَى الْعَالَمِ فَوَجَدْتُ أَيْسَرَهَا مَئُونَةً بَابَ الْمِنْخَرَيْنِ، لِذَّتُهُ يَسِيرَةٌ، مَوْجُودَةٌ فِي الزَّهْرِ وَالنَّوْرِ وَالرَّيْحَانِ، ثُمَّ الْتَمَسْتُ الْخِفَّةَ لِمَئُونَةِ بَابِ الْحَنَكِ فَإِذَا هُوَ طَرِيقٌ لِلْجَسَدِ، وَغِذَاءٌ لا قِوَامَ لَهُ إِلاَّ بِمَا يُلْقَى فِيهِ، فَإِذَا تِلْكَ الْمَئُونَةُ إِذَا صَارَتْ فِي الْوِعَاءِ اسْتَوَتْ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَرَفَضْتُ مَا عَسِرَ فَصِرْتُ فِيمَا قَطَعْتُ عَنْ نَفْسِي مِنْ مَئُونَةِ الْوِعَاءِ وَلَذَّةِ الْحَنَكِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ كَانَ يَتَّخِذُ الرَّمَادَ مِنَ الْخَلَنْجِ وَالصَّنْدَلِ وَالْعِيدَانِ الْمُرْتَفِعَةِ، فَلَمَّا ثَقُلَ عَلَيْهِ مَئُونَةُ ذَلِكَ اتَّخَذَ الرَّمَادَ مِنَ الزُّبْلِ وَالْحَطَبِ الرَّخِيصِ، فَرَحَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَنَظَرْتُ فِي مَئُونَةِ الْفَرْجِ فَإِذَا هُوَ وَالْعَيْنَانِ مَوْصُولانِ بِالْقَلْبِ، وَإِذَا بَابُ الْعَيْنِ يَسْقِي الشَّهْوَةَ، وَهُمَا مُعِينَانِ عَلَى هَلاكِ الْجَسَدِ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ تِلْكَ اللَّذَّةُ عَلَى طُولِ الْعُمُرِ، فَهَمَمْتُ بِإِلْقَائِهِمَا عَنِّي وَقُلْتُ: هَلاكُهُمَا واطِّرَاحُهُمَا أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ هَلاَكِ جَسَدِي، وَأَشْفَقْتُ أَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْجَسَدِ فَرَوَّيْتُ وَفَكَّرْتُ، فَلَمْ أَجِدْ لَهُمَا شَيْئًا أَفْضَلَ مِنَ الْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ، وَكَانَ مَا بَغَضَّ إِلَيَّ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فِكْرِي فِي مُقَامِي مَعَ مَنْ لاَ يَعْقِلُ إِلاَّ أَمْرَ دُنْيَاهُ فَاسْتَوْحَشْتُ مِنَ الْمُقَامِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُمْ إِلَى هَذَا الْمَنْزِلِ، فَقُطِعَتْ عَنِّي أَبْوَابُ الْخَطِيئَةِ، وَحَسَمْتُ نَفْسِي لَذَّاتٍ أَرْبَعًا، وَقَطَعْتُهُنَّ بِخِصَالٍ أَرْبَعٍ

الصفحة 476