كتاب الوجل والتوثق بالعمل لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

الأَنْبِيَاءَ؟ فَقَدْ أَخْطَأَ دَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ، وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا. قَالَ السَّنَّاطُ: أَرَاكَ عَالِمًا بِخَطَايَا الأَنْبِيَاءِ، جَاهِلا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ، إِنَّمَا كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُدَ نَظْرَةً وَاحِدَةً، فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَإِنَّمَا سَهَا سُلَيْمَانُ عَنْ صَلاةٍ وَاحِدَةٍ فَأَخَّرَ وَقْتَهَا لِلَذَّةٍ فِي الْخَيْلِ، فَتَابَ وَاسْتَغْفَرَ وَضَرَبَ أَعْنَاقَهَا وَعَرْقَبَهَا، وَإِنَّمَا تَرَكَ يَحْيَى صَلاةً وَاحِدَةً مِنْ نَوَافِلِ اللَّيْلِ، اتَّهَمَ بِذَلِكَ كَثْرَةَ طَعَامِهِ، فَمَا مَلأَ بَطْنَهُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَرَقًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ، قَالَ صَاحِبُ الدَّيْرِ: أَرْجُو التَّوْبَةَ، قَالَ السَّنَّاطُ: رُبَّمَا عَاجَلَ الْمَوْتُ صَاحِبَ الْخَطِيئَةِ عَنِ التَّوْبَةِ. فَأَقَامَ صَاحِبُ الدَّيْرِ عَلَى خَطِيئَتِهِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِي هَلاكِهِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنَ اللُّصُوصِ، كَانَ لَهُ أَصْحَابٌ مُتَفَرِّقُونَ فِي الْقُرَى فَبَعَثَ رَأْسُ اللُّصُوصِ أَصْحَابَهُ يُبَيِّتُونَ الْقَرْيَةَ الَّتِي فِيهَا امْرَأَةُ الرَّاهِبِ صَاحِبِ الدَّيْرِ، فَلَمَّا بَيَّتُوهُمْ وَجَدُوا الرَّاهِبَ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي لِحَافٍ، فَأَتَوْا بِهِ رَأْسَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاهِبًا لَعَذَرْنَاهُ، وَلَكِنَّمَا نُقِيمُ فِيهِ حَدَّ اللهِ فِيمَنْ حَرَّمَ النِّسَاءَ ثُمَّ رَكِبَهُنَّ،
فَسَأَلَ عَنْ عُقُوبَتِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَقِيلَ عُقُوبَتُهُ أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ، فَأُلْقِيَ فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ، وَكَفَى اللَّهُ الرُّهْبَانَ مَؤُنَتَهُ، وَعَجَّلَهُ لِلنَّارِ فِي الدُّنْيَا، لِعَبَادَتِهِ الَّتِي نَوَاهَا لِلدُّنْيَا.
وَلَقَدْ عَجِبْتُ لأَهْلِ الْمَصَائِبِ، كَيْفَ لاَ يَسْتَعِينُونَ عَلَى مَصَائِبِهِمْ بِالصَّبْرِ، وَيَذْكُرُونَ مَا يُؤَمِّلُونَ مِنَ الثَّوَابِ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَى صَاحِبِ الْمُصِيبَةِ يَوْمٌ يَتَمَنَّى فِيهِ مَا تَمَنَّى الأَعْمَى فِي مُصِيبَتِهِ. قَالُوا: وَمَا تَمَنَّى الأَعْمَى فِي مُصِيبَتِهِ؟ قَالَ أَنْطُونِسُ: زَعَمُوا أَنَّ تَاجِرًا دَفَنَ مِئَةَ دِينَارٍ فِي مَوْضِعٍ، فَبَصُرَ بِهَا جَارٌ لَهُ فَأَخْرَجَهَا، فَلَمَّا فَقَدَهَا التَّاجِرُ جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، ثُمَّ طَالَ بِهِ الْعُمُرُ حَتَّى عَمِيَ وَاحْتَاجَ حَاجَةً شَدِيدَةً، فَلَمَّا حَضَرَتْ جَارَهُ الْوَفَاةُ تَخَوَّفَ الْحِسَابَ، فَأَوْصَى أَنْ تُرَدَّ الْمِئَةُ دِينَارٍ إِلَى الأَعْمَى، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرُوهُ بِالْقَصَّةِ، فَسُرَّ الأَعْمَى سُرُورًا لَمْ يُسَرَّ بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّهَا عَلَيَّ أَحْوَجَ مَا كُنْتُ إِلَيْهَا، فَيَا لَيْتَ كُلَّ مَالٍ كَانَ لِي يَوْمَئِذٍ قُبِضَ عَنِّي ثُمَّ رُدَّ عَلَيَّ الْيَوْمَ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ أَنَّ لَهُ عَمَلا صَالِحًا أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ سَيَلْقَاهُ يَوْمَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِنَفَاذِ عُقُولِهِمْ، كَيْفَ لاَ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ صَاحِبُ الْمَسِيلِ. قَالُوا: وَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟
قَالَ أَنْطُونِسُ: زَعَمُوا أَنَّ رَجُلا نَزَلَ بَطْنَ مَسِيلٍ، فَقِيلَ لَهُ: تَحَوَّلْ عَنْ هَذَا الْمَنْزِلِ، فَإِنَّهُ مَنْزِلٌ خَطِرٌ. فَقَالَ: قَدْ عَمِلْتُ، وَلَكِنْ يُعْجِبُنِي نُزْهَتُهُ وَمَرَافِقُهُ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا تَطْلُبُ الرِّفْقَ لِصَلاحِ نَفْسِكَ، فَلا تُخَاطِرْ بِهَا. قَالَ: مَا أُرِيدُ التَّحَوُّلَ عَنْ مَنْزِلِي. فَغَشِيَهُ السَّيْلُ وَهُوَ نَائِمٌ فَذَهَبَ بِهِ، فَقَالَ النَّاسُ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ. وَهُمْ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ، كَأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الدَّهْرِ الَّذِينَ قَالُوا: نُنْشَأُ وَنَبِيدُ، وَالْهَالِكُ مِنَّا لاَ يَعُودُ.
قَالَ أَنْطُونِسُ: فَلَوْ أَخَذْنَا بِالْحَزْمِ كُنَّا كَأَصْحَابِ أَفْرُولِيَّةَ. قِيلَ: وَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ بَعَثَ مَلِكُ أَسْقُولِيَّةَ بَعْثًا إِلَى أَفْرُولِيَّةَ، وَكَانَ الْمَسِيرُ إِلَيْهَا فِي الْبَحْرِ سِتِّينَ لَيْلَةً، لاَ يَجِدُونَ مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ إِلاَّ مَا حَمَلُوهُ مَعَهُمْ، وَكَانَ مَعَ صَاحِبِ أَسْقُولِيَّةَ كَاهِنَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَمَا إِنَّ هَذَا الْجَيْشَ سَيُقِيمُونَ عَلَى أَفْرُولِيَّةَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يَرْمُونَهَا بِالْمَجَانِيقِ، وَتُفْتَحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ. قَالَ الآخَرُ: لاَ، بَلْ يُقِيمُونَ سَبْعَةً وَيَنْصَرِفُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ. فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ الْبَعْثِ قَوْلَهُمَا قَالُوا: مَا نَدْرِي لِلْبَدَاءَةِ نَحْمِلُ الزَّادَ أَمْ لِلْبَدَاءَةِ وَالرَّجْعَةِ؟ قَالَ فَوْجٌ مِنْهُمْ: نَقْبَلُ قَوْلَ الْكَاهِنِ الَّذِي قَالَ نَفْتَحُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، وَلا نُعَنِّي أَنْفُسَنَا بِحَمْلِ ثَقِيلِ الزَّادِ. وَقَالَ الْفَوْجُ الآخَرُ: إِنَّمَا هِيَ أَنْفُسُنَا، لاَ نُخَاطِرُ بِهَا، فَحَمَلُوا الزَّادَ لِلْبَدَاءَةِِ وَالرَّجْعَةِ، ثُمَّ سَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَفْرُولِيَّةَ، وَقَدْ أَخَذُوا بِالْحَزْمِ، وَتَحَرَّزُوا دُونَهُمْ بِحِصْنٍ دُونَ حِصْنٍ، فَأَقَامُوا عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِالْمَجَانِيقِ فَفَتَحُوا حَائِطَهَا الظَّاهِرَ، فَنَاهَضُوهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا الثَّغْرَةَ إِذَا لَهَا قَصَبَةٌ أُخْرَى حَصِينَةٌ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِدُخُولِ الْحَائِطِ الأَوَّلِ، وَجَاءَهُمْ بَرِيدٌ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ أَنَّ مَلِكَهُمْ قَدْ مَاتَ، فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، فَهَلَكَ مِمَّنْ فَرَّطَ فِي حَمْلِ الزَّادِ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَصَارُوا مَثَلا، وَكَذَلِكَ يَهْلَكُ مَنْ فَرَّطَ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ، وَيَنْجُو مَنْ تَزَوَّدَ لَهَا، وَتَحَرَّزَ مِنْ بِوَائِقِهَا، كَمَا تَحَرَّزَ أَهْلُ أَفْرُولِيَّةَ، وَكَمَا نَجَا مَنْ تَزَوَّدَ مِن أَهْلِ أَسْقُولِيَّةَ لِلرَّجْعَةِ.
قَالَ النَّفْرُ السِّتَّةُ لأَنْطُونِسَ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَكَ، وَأَبْلَغَ مَوْعِظَتَكَ.
قَالَ: أَمَا إِنَّ حَلاوَةَ عِظَتِي لاَ تُجَاوِزُ آذَانَكُمْ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى فِي النَّامُوسِ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ دَاوُدُ مِنَ الزَّبُورِ، وَالْمَسِيحُ مِنَ الإِنْجِيلِ، وَفِي كُتُبِ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالثَّوَابُ لِمَنْ عَمِلَ يُعْطَى بِقَدْرِ عَمَلِهِ. وَالأَجِيرُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ رَبِّ أَجْرِهِ، فَانْظُرُوا فِي أَعْمَالِكُمْ، واقْضُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ مَا لَكُمْ وَمَا عَلَيْكُمْ، وَانْصَرِفُوا عَنِّي رَاشِدِينَ. فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، فَاقْتَرَعُوا بَيْنَهُمْ، وَمَلَّكُوا أَحَدَهُمْ، وَرَضُوا بِهِ.

آخر الكتاب

الصفحة 489