كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 7)

" صفحة رقم 118 "
فكان وجوده بوجودها ، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول ، فأدخلت عليها لولا ، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ويؤول معناها إلى قولك : ولولا قولهم هذا ، ( إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ ( لما أرسلنا ، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة ، وهو أنهم لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم ، وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين . لم يقولوا : لولا أرسلت إلينا رسولاً ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير ، لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم . وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخهم فيه ما لا يخفى ، كقولهم : ) وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ). انتهى .
( وَالْحَقَّ ( : هو الرسول ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، جاء بالكتاب المعجز الذي قطع معاذيرهم . وقيل : القرآن ، ( مِثْلَ مَا أُوتِىَ مُوسَى ). ) مِن قَبْلُ ( : أي من قبل الكتاب المنزل جملة واحدة ، وانقلاب العصا حية ، وفلق البحر ، وغيرها من الآيات . اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ، كما قالوا : لولا أنزل عليه كنز ، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم . وهذه المقالة التي قالوها هي من تعليم اليهود لقريش ، قالوا لهم . ألا يأتي بآية باهرة كآيات موسى ، فرد الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى ، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع من هؤلاء في آيات الرسول . فالضمير في : ) أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ ( لليهود ، قاله ابن عطية : وقيل : قائل ذلك العرب بالتعليم ، كما قلنا . وقيل : قائل ذلك اليهود ، ويظهر عندي أنه عائد على قريش الذين قالوا : ) لَوْلا أُوتِىَ ( : أي محمد ، ( مَا أُوتِىَ مُوسَى ( ، وذلك أن تكذيبهم لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) تكذيب لموسى عليه السلام ، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى ، إذ الأنبياء هم من وادٍ واحد . فمن نسب إلى أحد من الأنبياء ما لا يليق ، كان ناسباً ذلك إلى جميع الأنبياء . وتتناسق الضمائر كلها في هذا ، في قوله : ) قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( وإن كان الظاهر من القول إنه النطق اللساني ، فقد ينطلق على الإعتقاد وهم من حيث إنكار النبوات ، معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياء من الآيات إنما هو من باب السحر .
وقال الزمخشري : ) أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ ( ، يعني آباء جنسهم ، ومن مذهبهم مذهبهم ، وعنادهم عنادهم ، وهم الكفرة في زمن موسى ) بِمَا أُوتِىَ مُوسَى ). وعن الحسن : قد كان للعرب أصل في أيام موسى ، فمعناه على هذا : أو لم يكفر آباؤهم ؟ قالوا في موسى وهارون : ) وَإِن تَظَاهَرَا ( ، أي تعاوناً . انتهى . ومن قبل : يحتمل أن يتعلق بيكفروا ، وبما أوتي . وقرأ الجمهور : ساحران . قال مجاهد : موسى وهارون . وقال الحسن : موسى وعيسى . وقال ابن عباس : موسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الحسن أيضاً : عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . وقرأ عبد الله ، وزيد بن علي ، والكوفيون : سحران . قال ابن عباس : التوراة والقرآن . وقيل : التوراة والإنجيل ، أو موسى وهارون جعلا سحرين على سبيل المبالغة . ) تَظَاهَرَا ( : تعاونا . قرأ الجمهور : تظاهرا : فعلاً ماضياً على وزن تفاعل . وقرأ طلحة ، والأعمش : اظاهرا ، بهمزة الوصل وشد الظاء ، وكذا هي في حرف عبد الله ، وأصله تظاهرا ، فأدغم التاء في الظاء ، فاجتلبت همزة الوصل لأجل سكون التاء المدغمة . وقرأ محبوب عن الحسن ، ويحيى بن الحارث الذماري ، وأبو حيوة ، وأبو خلاد عن اليزيدي : تظاهرا بالتاء ، وتشديدالظاء . قال ابن خالويه : وتشديده لحن لأنه فعل ماض ، وإنما يشدد في المضارع . وقال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه . وقال صاحب الكامل في القراءات : ولا معنى له . انتهى . وله تخريج في اللسان ، وذلك أنه مضارع حذفت منه النون ، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر ، وساحران خبر مبتدأ محذوف تقديره : أنتما ساحران تتظاهران ؛ ثم أدغمت التاء في الظاهر وحذفت النون ، وروعي ضمير الخطاب . ولو قرىء : يظاهرا ، بالياء ، حملاً على مراعاة ساحران ، لكان له وجه ، أو على تقدير هما ساحران تظاهرا .
( وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ كَافِرُونَ ( : أي بكل من الساحرين أو السحرين ، ثم أمره تعالى أن يصدع بهذه الآية ، وهي قوله : ) قُلْ فَأْتُواْ ( : أي أنتم أيها المكذبون ، بهذه الكتب التي تضمنت الأمر بالعبادات ومكارم الأخلاق ، ونهت عن الكفر والنقائص ، ووعد الله عليها الثواب الجزيل . إن كان تكذيبكم لمعنى ) فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( يهدي أكثر من هدي هذه ، أتبعه معكم . والضمير في منها عائد على ما أنزل على موسى ، وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم ، وتعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق

الصفحة 118