كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 7)

" صفحة رقم 173 "
( سقط : يكفرون ، فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، وما أنت بهادي العمى عن ظلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بأياتنا فهم مسلمون )
لما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ، ذكر ظهور الصلاح . والكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ، ويذكر لعقابه سبباً لئلا يتوهم به الظلم ؛ فذكر من أعلام قدرة إرسال الرياح مبشرات بالمطر ، لأنها متقدمة . والمبشرات : رياح الرحمة ، الجنوب والشمال والصبا ، وأما الدبور ، فريح العذاب ، وليس تبشيرها مقتصراً به على المطر ، بل لها تبشيرات بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها ، وكأنه بدأ أولاً بشيء عام ، وهو التبشير . وقرأ الأعمش : الريح ، مفرداً ، وأراد معنى الجمع ، ولذلك قرأ : ) مُبَشّراتٍ ). ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر ، ويتبعه حصول الخصب ، والريح الذي معه الهبوب ، وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك . ) وَلِيُذِيقَكُمْ ( : عطف على معنى مبشرات ، فالعامل أن يرسل ، ويكون عطفاً على التوهم ، كأنه قيل : ليبشروكم ، والحال والصفة قد يجيئان ، وفيهما معنى التعليل . تقول : أهن زيد سيئا وأكرم زيداً العالم ، تريد لإماءته ولعلمه . وقيل : ما يتعلق به اللام محذوف ، أي ولكنا أرسلناها . وقيل : الواو في وليذيقكم زائدة . و ) بِأَمْرِهِ ( : أي بأمر الله ، يعني أن جريانها ، لما كان مسنداً إليها ، أخبر أنه بأمره تعالى . ) مِن فَضْلِهِ ( : مما يهيء لكم من الريح في التجارات في البحر ، ومن غنائم أهل الشرك . ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء ، ولما كان تعالى بين الأصلين : المبدأ والمعاد ، بين ذكر الأصل الثالث ، وهو النبوّة ؛ وفي الكلام حذف تقديره : وآمن به بعض وكذب بعض ، ( فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ).
وفي قوله : ) وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( : تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر ، إذا أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا ، وفي لفظ حقاً مبالغة في التحتم ، وتكريم للمؤمنين ، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان ، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر . والظاهر أن ) حَقّاً ( خبر كان ، و ) نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( الاسم ، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء ، إذ هو محط الفائدة . وقال ابن عطية : وقف بعض القراء على حقاً وجعله من الكلام المتقدم ، ثم استأنف جملة من قوله : ) عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( ، وهذا قول ضعيف ، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية . وقال الزمخشري : وقد يوقف على ) حَقّاً ( ، ومعناه : وكان الانتقام منهم حقاً ، ثم يبتدأ علينا ) نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ). انتهى . وفي الوقف على ) وَكَانَ حَقّاً ( بيان أنه لم يكن الانتقام ظلماً ، بل عدلاً ، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلاّ زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر ، فكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث .
( اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ ( ، هذا متعلق بقوله : ) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ ( ، والجملة التي بينهما اعتراض ، جاءت تأنيساً للرسول وتسلية ووعداً بالنصر ووعيداً لأهل الكفر ، وفي إرسالها قدرة وحكمة . أما القدرة ، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء ، وهو ليس بذاته يفعل ذلك ، بل بفاعل مختار . وأما الحكمة ، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب ، وإخراج الماء منه ، وإنبات الزرع ، ودر الضرع ، واختصاصه بناس دون ناس ؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة ، تحريكها وتسييرها . والبسط : نشرها في الآفاق ، والكسف : القطع . وتقدم الكلام على قوله : ) فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ( ، وذكر الخلاف في ) كِسَفًا ( وحاله من جهة القراء . والضمير في : ) مِنْ خِلاَلِهِ ( ، الظاهر أنه عائد على السحاب ، إذ هو المحدث عنه ، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه . قيل : ويحتمل أن يعود على ) كِسَفًا ( في قراءة من سكن العين ، والمراد بالسماء : سمت السماء ، كقوله : ) وَفَرْعُهَا

الصفحة 173