كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 7)

" صفحة رقم 180 "
قلت : لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق ، ونحوه قوله تعالى : ) فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ( ، أي وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها . انتهى . و ) سَبِيلِ اللَّهِ ( : الإسلام أو القرآن ، قولان . قال ابن عطية : والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافاً إلى الكفر ، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله : ) لِيُضِلَّ ( إلى آخره . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : ) وَيَتَّخِذَهَا ( ، بالنصب عطفاً على ) لِيُضِلَّ ( ، تشريكاً في الصلة ؛ وباقي السبعة : بالرفع ، عطفاً على ) يَشْتَرِى ( ، تشريكاً في الصلة . والظاهر عود ضمير ) وَيَتَّخِذَهَا ( على السبيل ، كقوله : ) وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ). قيل : ويحتمل أن يعود على ) الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ). وقال تعالى : ) وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ). قيل : ويحتمل أن يعود على الأحاديث ، لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث . وقال صاحب التحرير : ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث : ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم ، والأمر بالدوام عليه ، وتفسير صفة الرسول ، وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق ، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان ، وأطلق اسم الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم ، ويؤيده ) لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( : أي دينه . انتهى ، وفيه بعض حذف وتلخيص .
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ( : بدأ أولاً بالحمل على اللفظ ، فأفرد في قوله : ) مَن يَشْتَرِى ( ، ( وليضل ( ، ( عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا ( ، ثم جمع على الضمير في قوله : ) أُوْلئِكَ لَهُمْ ( ، ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله : ) وَإِذَا تُتْلَى ( إلى آخره . ومن في : ) مَن يَشْتَرِى ( موصولة ، ونظيره في من الشرطية قوله : ) وَمَن يُؤْمِن مِنْ بِاللَّهِ ( ، فما بعده أفرد ثم قال : ) خَالِدِينَ ( ، فجمع ثم قال : ) قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ( ، فأفرد ، ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، غير هاتين الآيتين . والنحويون يذكرون ) وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ ( الآية فقط ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، ويستدلون بها على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات . وتضمنت هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولية عن الحكمة ، ثم الاستكبار ، ثم عدم الالتفات إلى سماعها ، كأنه غافل عنها ، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صمماً يصده عن السماع . و ) كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ( : حال من الضمير في ) مُسْتَكْبِراً ( ، أي مشبهاً حال من لم يسمعها ، لكونه لا يجعل لها بالاً ولا يلتفت إليها ؛ وكأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف . و ) كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً ( : حال من لم يسمعها . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا استئنافين . انتهى ، يعني الجملتين التشبيهيتين .
ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم ، ذكر ما وعد به المؤمنين . وقرأ زيد بن علي : خالدون ، بالواو ؛ والجمهور : بالياء . وانتصب ) وَعَدَ اللَّهُ ( على أنه مصدر مؤكد لنفسه ، و ) حَقّاً ( على المصدر المؤكد لغيره ، لأن قوله : ) لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ( ، والعامل فيها متغاير ، فوعد الله منصوب ، أي يوعد الله وعده ، وحقاً منصوب بأحق ذلك حقاً . ) خُلِقَ السَّمَاوَاتِ ( إلى ) فَأَنبَتْنَا فِيهَا ( ، تقدم الكلام على ذلك . ومعنى ) كَرِيمٌ ( : مدحته بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره ، وما تقضي له النفوس بأنه أفضل من غيره حتى استحق الكرم ، فيخص لفظ الأزواج ما كان نفيساً مستحسناً من جهة ، أو مدحته بإتقان صفته وظهور حسن الرتبة والتحكم للصنع فيه ، فيعم جميع الأزواج ، وهو الأنواع . ) هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ ( : إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته ، وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته . والخلق بمعنى المخلوق ، كقولهم : درهم ضرب الأمير ، أي مضروبه . ثم سألهم على جهة التهكم بهم أن يورده . وأما خلقته آلتهم لما ذكر مخلوقاته ، فكيف عبدوها من دونه ؟ ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي ، وتكون مفعولاً ثانياً لأروني . واستعمال ماذا كلها موصولاً قليل ، وقد ذكره سيبويه . ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وهو خبر عن ما ، والجملة في موضع نصب بأروني ، وأروني معلقة عن العمل لفظاً لأجل الاستفام . ثم أضرب عن توبيخهم وتبكيتهم إلى التسجيل عليهم بأنهم في حيرة واضحة لمن يتدبر ، لأن من عبد صنماً وترك خالقه جدير بأن يكون في حية وتيه لا يقلع عنه .

الصفحة 180