" صفحة رقم 183 "
الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي .
( يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ( ، يوم القيامة ، فيحاسب عليها . ) إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ( ، يتوصل علمه إلى كل خفي . ) خَبِيرٌ ( : عالم يكنهه . وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرها . وبدأ له بما يتعلق به أولاً ، وهو كينونة الشيء . ) فِى صَخْرَةٍ ( : وهو ما صلب من الحجر وعشر إخراجه منها ، ثم أتبعه بالعالم العلوي ، وهو أغرب للسامع ، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد ، وهو الأرض . وعن ابن عباس والسدي ، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض . قال ابن عباس : هي تحت الأرضين السبع ، يكتب فيها أعمال الفجار . قال ابن عطية : قيل : أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء ، وهي على ظهر ملك . وقيل : هي صخرة في الريح ، وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده ، وإنما معنى الكلام : المبالغة والانتهاء في التفهم ، أي إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة ، وما يكون في السماء والأرض . انتهى . قيل : وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة ، ويبعده عن الرائي . وبكونه في ظلمة وباحتجابه ، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب ، وفي السموات إشارة إلى البعد ، وفي الأرض إشارة إلى الظلمة ، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن . وفي قوله : ) يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ( دلالة على العلم والقدرة ، كأنه قال : يحيط بها علمه وقدرته .
ولما نهاه أولاً عن الشرك ، وأخبره ثانياً بعلمه تعالى وباهر قدرته ، أمره بما يتوسل به إلى الله من الطاعات ، فبدأ بأشرفها ، وهو الصلاة ، حيث يتوجه إليه بها ، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها ، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف ممن يبعثه عليه ، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه ، فكثيراً ما يؤذى فاعل ذلك ، وهذا إنما يريد به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف . إن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به . والعزم مصدر ، فاحتمل أن يراد به المفعول ، أي من معزوم الأمور ، واحتمل أن يراد به الفاعل ، أي عازم الأمور ، كقوله : ) فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ ). وقال ابن جريج : مما عزمه الله وأمر به ؛ وقيل : من مكارم الأخلاف وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة . والظاهر أنه يريد من لازمات الأمور الواجبة ، لأن الإشارة بذلك إلى جميع ما أمر به ونهى عنه . وهذه الطاعات يدل إيصاء لقمان على أنها كانت مأموراً بها في سائر الملل . والعزم : ضبط الأمر ومراعاة إصلاحه . وقال مؤرج : العزم : الحزم ، بلغة هذيل . والحزم والعزم أصلان ، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء ، لاطراد تصاريف كل واحد من اللفظين ، فليس أحدهما أصلاً للآخر .
( وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ( : أي لا تولهم شق وجهك ، كفعل المتكبر ، وأقبل على الناس بوجهك من غير كبر ولا إعجاب ، قاله ابن عباس والجماعة . قال ابن خويز منداد : نهى أن يذل نفسه من غير حاجة ، وأورد قريباً من هذا ابن عطية احتمالاً فقال : ويحتمل أن يريد : ولا سؤالاً ولا ضراعة بالفقر . قال : والأول ، يعني تأويل ابن عباس والجماعة ، أظهر لدلالة ذكر الاختيال والعجز بعده . وقال مجاهد : ) وَلاَ تُصَعّرْ ( ، أراد به الإعراض ، كهجره بسب أخيه . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وزيد بن علي : تصعر ، بفتح الصادر وشد العين ؛ وباقي السبعة : بألف ؛ والجحدري : يصعر مضارع أصعر . ) وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( : تقدم الكلام على هذه الجملة في سورة سبحان . ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( : تقدم الكلام في النساء على نظير هذه الجملة في قوله : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ). ولما وصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ صار هو في نفسه ممتثلاً للمعروف مزدجراً عن المنكر ، أمر به غيره وناهياً عنه غيره ، نهاه عن التكبر على الناس والإعجاب والمشي مرحاً ، وأخبره أنه تعالى لا يحب المختال ، وهو المتكبر ، ولا الفخور . قال مجاهد : وهو الذي يعدد ما أعطي ، ولا يشكر الله . ويدخل في الفخور : الفخر بالأنساب .
( وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ( : ولما نهاه عن الخلق الذميم ، أمره بالخلق الكريم ، وهو القصد في المشي ، بحيث لا يبطيء ، كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون ، يتباطؤون في نقل خطواتهم المتنامين للرياء والمتعاجب للترفع ، ولا يسرع ، كما يفعل الخرق