" صفحة رقم 40 "
العرب ، لم يؤمنوا به ، حيث لم يفهموه ، واستنكفوا من اتباعه . وقيل : ولو نزلنا القرآن على بعض العجم من الدواب فقرأه عليهم ، لم يؤمنوا ، لعنادهم لقوله تعالى : ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ ( الآية ، وجمع جمع السلامة ، لأنه وصف بالإنزال عليه والقراءة ، وهو فعل العقلاء . وقيل : ولو نزل على بعض البهائم ، فقرأه عليهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لم تؤمن البهائم ، كذلك هؤلاء لأنهم : ) كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( انتهى .
ولما بين بما تقدم ، من أن هذا القرآن في كتب الأولين ، وأن علماء بني إسرائيل يعلمون ذلك ، وكان في ذلك دليلان على صدق نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل . ألا ترى نزوله على رجل عربي بلسان عربي ، وسمعوه وفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله القديمة له ، ومع ذلك جحدوا وسموه تارة شعراً وتارة سحراً ؟ ولو نزل على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية ، لكفروا به وتمحلوا بجحوده . وقال الفراء : الأعجمين جمع أعجم وأعجمي ، على حذف ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرين ، وواحدهم أشعري . وقال ابن الجهم : قال الكميت : ولو جهزت قافية شرودا
لقد دخلت بيوت الأشعرينا
انتهى . وقرأ الحسن ، وابن مقسم : الأعجمين ، بياء النسب : جمع أعجمي . والضمير في ) سَلَكْنَاهُ ( ، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر . قيل : وهو القرآن ، وقاله الرماني . والمعنى : مثل ذلك السلك ، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه . ) سَلَكْنَاهُ ( : أدخلناه ومكناه في ) قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ). والمعنى : ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه ، ولم يزدهم ذلك إلا عناداً وجحوداً وكفرا به ، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفر به والتكديب له ، كما وضعناه فيها . فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغير ؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود ، كما قال : ) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ ( الآية . وقال الكرماني : أدخلناه فيها ، فعرفوا معانيه ، وعجزهم عن الأتيان الإيمان بمثله ، ولم يؤمنوا به . وقال يحيى بن سلام : الضمير في سلكناه يعود على التكذيب ، فذلك الذي منعهم من الإيمان . انتهى . ويقويه قوله : ) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ). وقال الحسن : الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله : ) مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ). انتهى . وهو قريب من القول الذي قبله . وقال عكرمة : سلكناه ، أي القسوة ، وأسند السلك تعالى إليه ، لأنه هو موجد الأشياء حقيقة ، وهو الهادي وخالق الضلال .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته ؟ قلت : أراد به الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشد التمكين وأثبته ، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه . ألا ترى إلى قولهم : هو مجبول على الشح ؟ يريدون تمكن الشح فيه ، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة ، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه ، وهو قوله : ) لاَ يُؤْمِنُونَ ( به . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين ، يقتضي تغاير من حل به . والمعنى : مثل ذلك السلك في قلوب قريش ، سلكناه في قلوب من أجرم ، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإحرام . قال ابن عطية : أراد بهم مجرمي كل أمّة ، أي إن هذه عادة الله فيهم ، أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب ، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم ، وهذا على جهة المثال لقريش ، أي هؤلاء كذلك ، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما موقع ) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( من قوله : ) سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( ؟ قلت : موقعه منه موقع الموضح والملخص ، لأنه مسوق لثباته مكذباً مجحوداً في قلوبهم ، فاتبع بما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد ، ويجوز أن يكون حالاً ، أي سلكناه فيها غير مؤمن به . انتهى . ورؤيتهم العذاب ، قيل : في الدنيا ، وقيل : يوم القيامة . وقرأ الجمهور : ) فَيَأْتِيَهُم ( ، بياء ، أي العذاب .