" صفحة رقم 45 "
يكون المراد أنه تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد ، كما نقوله نحن . فإذا احتمل كل هذه الوجوه ، وجب حمل الآية على الكل ضرورة ، لأنه لا منافاة ولا رجحان . وبقوله عليه الصلاة والسلام : ( لم أزل أنقل من أصلال الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى : ) إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( فأما قوله تعالى : ) وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ ( ، فلفظ الأب قد يطلق على العم ، كما قالوا أبناء يعقوب له : ) نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( ، . سموا إسماعيل أباً مع أنه كان عماً له .
( قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ ( : أي قل يا محمد : هل أخبركم ؟ وهذا استفهام توقيف وتقرير . وعلى من متعلق بتنزل ، والجملة المتضمنة معنى الاستفهام في موضع نصب لأنبئكم ، لأنه معلق ، لأنه بمعنى أعلمكم ، فإن قدرتها متعدية لاثنين ، كانت سادة مسد المفعول الثاني ؛ وإن قدرتها متعدية لثلاثة ، كانت سادة مسد الاثنين . والاستفهام إذا علق عنه العامل ، لا يبقى على حقيقة الاستفهام وهو الاستعلام ، بل يؤول معناه إلى الخبر . ألا ترى أن قولك : علمت أزيد في الدار أم عمرو ، كان المعنى : علمت أحدهما في الدار ؟ فليس المعنى أنه صدر منه علم ، ثم استعلم المخاطب عن تعيين من في الدار من زيد وعمرو ، فالمعنى هنا : هل أعلمكم من تنزل الشياطين عليه ؟ لا أنه استعلم المخاطبين عن الشخص الذي تنزل الشياطين عليه .
ولما كان المعنى هذا ، جاء الإخبار بعده بقوله : ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( ، كأنه لما قال : هل أخبركم بكذا ؟ قيل له : أخبر ، فقال : ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ ( ، وهو الكثير الإفك ، وهو الكذب ، أثيم : كثير الإثم . فأفاك أثيم : صيغتا مبالغة ، والمراد الكهنة . والضمير في ) يُلْقُون ( يحتمل أن يعود إلى الشياطين ، أي ينصتون ويصغون بأسماعهم ، ليسترقوا شيئاً مما يتكلم به الملائكة ، حتى ينزلوا بها إلى الكهنة ، أو : ) يُلْقُونَ السَّمْعَ ( : أي المسموع إلى من يتنزلون عليه . ) وَأَكْثَرُهُمُ ( : أي وأكثر الشياطين الملقين ) كَاذِبُونَ ). فعلى معنى الإنصات يكون استئناف إخبار ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة احتمل الاستئناف ، واحتمل أن يكون حالاً من الشياطين ، أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما سمعوا . ويحتمل أن يعود الضمير في يلقون على كل أفاك أثيم ، وجمع الضمير ، لأن كل أفاك فيه عموم وتحته أفراد . واحتمل أن يكون المعنى : يلقون سمعهم إلى الشياطين ، لينقلوا عنهم ما يقررونه في أسماعهم ، وأن يكون يلقون السمع ، أي المسموع من الشياطين إلى الناس ؛ وأكثرهم ، أي أكثر الكهنة كاذبون . كما جاء أنهم يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء ، فيخلطون معها مائة كذبة . فإذا صدقت تلك الكلمة ، كانت سبب ضلالة لمن سمعها . وعلى كون الضمير عائداً على كل أفاك ، احتمل أن يكون يلقون استئناف إخبار عن الأفاكين ، واحتمل أن يكون صفة لكل أفاك ، ولا تعارض بين قوله : ) كُلّ أَفَّاكٍ ( ، وبين قوله : ) وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( ، لأن الأفاك هو الذي يكثر الكذب ، ولا يدل ذلك على أنه لا ينطق إلا بالإفك ، فالمعنى : أن الأفاكين من صدق منهم فيما يحكى عن الجني ، فأكثرهم مغتر .
قال الزمخشري : فإن قلت : ) وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ( ، لم فرق بينهن وبين إخوان ؟ قلت : أريد التفريق بينهن بآيات ليست في معناهن ، ليرجع إلى المجيء بهن ، بطريه ذكر ما فيهن كرة بعد كرة ، فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي أسندت كراهة الله لهم ، ومثاله : أن يحدث الرجل بحديث ، وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية ، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه . انتهى . ولما ذكر الكهنة بإفكهم الكثير وحالهم المقتضية ، نفى كلام القرآن ، إذ كان بعض الكفار قال في القرآن : إنه شعر ، كما قالوا في الرسول : إنه كاهن ، وإن ما أتى به هو من باب الكهانة ، كما قال تعالى : ) وَمَا هُوَ يِقُولُ كَاهِنٍ ( ، وقال : ) وما هو بقول شاعر ) .
فقال : ) والشعراء يتبعهم الغاوون ). قيل : هي في أمية بن أبي الصلت ، وأبي عزة ، ومسافع الجمحي ، وهبيرة بن أبي وهب ، وأبي سفيان بن الحرث ، وابن الزبعري . وقد أسلم ابن الزبعري وأبو سفيان . والشعراء عام يدخل فيه كل شاعر ، والمذموم من يهجو ويمدح شهوة محرمة ، ويقذف المحصنات ، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعاً . وقرأ عيسى : والشعراء : نصباً على الاشتغال ؛ والجمهور : رفعاً على الابتداء والخبر . وقرأ السلمي ، والحسن