كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 7)

" صفحة رقم 55 "
فقال : ) يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). والظاهر أن الضمير في إنه ضمير الشأن ، وأنا الله : جملة في موضع الخبر ، والعزيز الحكيم : صفتان ، وأجاز الزمخشري أن يكون الضمير في إنه راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله ، يعني : إن مكلمك أنا ، والله بيان لأنا ، والعزيز الحكيم صفتان للبيان . انتهى . وإذا حذف الفاعل وبني الفعل مفعول ، فلا يجوز أن يعود على الضمير على ذلك المحذوف ، إذ قد غير الفعل عن بنائه له ، وعزم على أن لا يكون محدثاً عنه . فعود الضمير إليه مما ينافي ذلك ، إذ يصير مقصوداً معتنى به ، وهذا النداء والإقبال والمخاطبة تمهيد لما أراد الله تعالى أن يظهره على يده من المعجز ، أي أنا القوي القادر على ما يبعد في الأوهام ، الفاعل ما أفعله بالحكمة . وقال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : ) وَأَلْقِ عَصَاكَ ( ؟ قلت : على بورك ، لأن المعنى : ) نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ ). وقيل له : ألق عصاك ، والدليل على ذلك قوله : ) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ( ، بعد قوله : ) أَن ياإِبْراهِيمُ مُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ ( ، على تكرير حرف التفسير ، كما تقول : كتبت إليه أن حج واعتمر ، وإن شئت أن حج وأن اعتمر . انتهى . وقوله : ) أَنَّهُ ( ، معطوف على بورك مناف لتقديره . وقيل له : ألق عصاك ، لأن هذه جملة معطوفة على بورك ، وليس جزؤها الذي هو . وقيل : معطوفاً على بورك ، وإنما احتيج إلى تقدير . وقيل له : ألق عصاك ، لتكون الجملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها ، كأنه يرى في العطف تناسب المتعاطفين ، والصحيح أنه لا يشترط ذلك ، بل قوله : ) وَأَلْقِ عَصَاكَ ( معطوف على قوله : ) إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ، عطف جملة الأمر على جملة الخبر . وقد أجاز سيبويه : جاء زيد ومن عمرو .
( فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ ( : ثم محذوف تقديره : فألقاها من يده . وقرأ الحسن ، والزهري ، وعمرو بن عبيد : جأن ، بهمزة مكان الألف ، كأنه فر من التقاء الساكنين ؛ وقد تقدم الكلام في نحو ذلك في قوله : ولا الضألين ، بالهمز في قراءة عمرو بن عبيد . وجاء : ) فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ ( ، ( فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ( ، وهذا إخبار من الله بانقلابها وتغيير أوصافها وإعراضها ، وليس إعداماً لذاتها وخلقها لحية وثعبان ، بل ذلك من تغيير الصفات لا تغيير الذات . وهنا شبهها حالة اهتزازها بالجان ، فقيل : وهو صغار الحيات ، شبهها بها في سرعة اضطرابها وحركتها ، مع عظم جثتها . ولما رأى موسى هذا الأمر الهائل ، ( وَلِيُّ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ ). قال مجاهد : ولم يرجع . وقال السدّي : لم يمكث . وقال قتادة : ولم يلتفت ، يقال : عقب الرجل : توجه إلى شيء كان ولى عنه ، كأنه انصرف على عقبيه ، ومنه : عقب المقاتل ، إذا كر بعد الفرار . قال الشاعر : فما عقبوا إذ قيل هل من معقب
ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
ولحقه ما لحق طبع البشرية إذا رأى الإنسان أمراً هائلاً جداً ، وهو رؤية انقلاب العصا حية تسعى ، ولم يتقدمه في ذلك تطمين إليه عند رؤيتها . قال الزمخشري : وإنما رغب لظنه أن ذلك لأمرٍ أريد به ، ويدل عليه : ) إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ ). انتهى . وقال ابن عطية : وناداه الله تعالى مؤنساً ومقوياً على الأمر : ) خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ ( ، فإن رسلي الذين اصطفيتم للنبوة لا يخافون غيري . فأخذ موسى عليه السلام الحية ، فرجعت عصا ، ثم صارت له عادة . انتهى . وقيل : لّالمعنى لا يخاف المرسلون في الموضع الذي يوحى إليهم فيه ، وهم أخوف الناس من الله . وقيل : إذا أمرتهم بإظهار معجز ، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك ، فالمرسل يخاف الله لا محالة . انتهى .
والأظهر أن قوله : ) إَلاَّ مَن ظَلَمَ ( ، استثناء منقطع ، والمعنى : لكن من ظلم غيرهم ، قاله الفراء وجماعة ، إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم الواقع من غيرهم . وعن الفراء : إنه استثناء متصل من جمل محذوفة ، والتقدير : وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم . ورده النحاس وقال : الاستثناء من محذوف محال ، لو

الصفحة 55